يا لأقداري البلهاء .. تلك التي قادتني لأن أزور مدينة، كنت قد سكنتها قبل نصف قرن من الزمان . أصابتني الحيرة، وصرت متسائلا : هل أنني تغيرت كثيرا، أم أن هذه المدينة، قد إستكانت الى قدرها مثلي، وتغيرت كثيرا حتى كأني لم أعد أعرفها . ..الحروف التي غرستها المسامير على طينها لم يعد بأستطاعتي قراءتها ... والجمل المكتوبة على جدرانها المتهرئة شاخت ، حتى صارت باهتة مثل وجوه أهلها . ليس في هذه المدينة من يعرفني غير شظايا متبقية من صوت ريح ، يشاغب سعفات نخيلها الميتة .
لم أجد على إسفلت شوارعها سوى آثار أقدام لجياع لاهثين ... شعرت بأن عقلائها وأئمتها قد تركوا الدين والدنيا، وإعتكفوا في زواياهم، منتظرين أمر الله . حتى الجنادب التي كانت تقتات على نمل الشتاء إختفت من بيوت وطرقات المدينة . . . وعلى أرصفتها بات يجلس بعضا من الشحاذين ودميات الشعراء والأدباء المتسكعين والمتغلفين بعباءات وأدعية الدين، والباعة المبحوحة أصواتهم، كلهم يتهامسون، معبرين عن حسدهم لمن ماتوا ومن تركوا البلاد .
تيقنت آنذاك أن أول شهقة لميلاد الحياة، لا بد أن تكون قد أطلقت هنا في هذه المدينة الكاهلة، ولربما ستكون النهاية والنشور فيها . وأن من تبقى من أهلها، ما هم إلا بقايا من نسل نوح، وقد فاتهم أن يموتوا .. ولكن شوق الذماء* ظل يأز في أذانهم .. ألا مفر من البقاء .
الذماء : آخر بقايا الريح قبل الممات