العراقيون أولى بدولة القانون

2009-03-31
بعد الكوارث والصراعات العنيفة التي حلت بالعراق منذ الغاء الدستور الدائم عام 1958, وجدت أمامي ثمة حاجة لتسليط الأضواء على أمجاد ماضي وعراقة بلدنا الذي شهد أول الشرائع في العالم, وعرف عبر تاريخه الطويل أهم وأخطر الخبرات في الفقه الإسلامي وفي وضع القوانين الحديثة, وكان دائماً دولة القانون .
ولا شك أن القوانين والتشريعات تعتبر من أهم انجازات الجماعات البشرية, وكلما إرتقت الجماعة البشرية إرتقت معها أفكارها, وسنت لها من الأحكام الواجبة الطاعة ما يحقق أمنها واستقرارها.
ومن دواعي فخرنا كعراقيين ان أجدادنا القدامى كانوا أول من سن التشريعات في العالم , وفي مقدمة ذلك نذكر شرائع اورنمو, وأشنونا, ولبت عشتار, فضلاً عن شريعة حمورابي التي تظل منفردة لإنها الأسلم في هيئتها عند إكتشافها, كما أنها الأكمل والأغنى في موادها, والأشمل في تصديها للظواهر الإجتماعية. وتعتبر هذه التدوينات محصلة حضارية كبرى حققها الإنسان العراقي في ذلك العصر وتركت أثراً كبيراً على مجمل الحضارة الإنسانية.
وتواترت بعد ذلك تشريعات بلاد الرافدين الأخرى وانتقلت الى أماكن مختلفة من العالم, وبدأنا نرى التشريعات المدونة في آثار الفراعنة وفارس وبلاد أخرى كاليونان والرومان وغيرها. وقد تسابق في هذا المجال أشهر الحكام وقادة الدول رغبة في المجد وترصين شئون بلادهم.
لقد إحتوت شريعة حمورابي على نواحي مختلفة من الحياة. وحينما نمعن النظر في الأحكام فإن أول ما يسترعى الأنتباه ويدعو للفخر أنه ليس في مواد الشريعة البالغة 282 مادة أي نص مخصص لحماية الدولة والحكام! وهذا يدل على مدى تحضر الإنسان العراقي القديم وكيف كانت مكانة العدالة قبل أربعة آلاف سنة.
ولو قارنا شريعة حمورابي مع الشرائع القديمة لتبين لنا أنها أكثر شمولاً وتقدماً, وبأن العدالة, وكما يقول المؤرخ الأمريكي صموئيل نوح كرومر, كانت رائد التشريع في سومر وكل أنحاء بلاد الرافدين.
ويقول جورج ويفير أن شريعة حمورابي توضح لنا أن الحق المدني عند قدماء سكان بلاد الرافدين لم يكن أدنى من الحق المدني الموجود عندنا حالياً. وإذا كنا نفاخر الآن بحقوق مدنية تحققت في العصر الحديث, فإنها في الحقيقة كانت موجودة عند قدماء الرافدين قبل أربعة آلاف سنة ولكنها زالت واضطرت البشرية الى تحمل المشقة والنضال الطويل لتعاود تعلمها من جديد.
وقد دعى كل هذا وما سبق أن ذكرناه العديد من علماء التاريخ والآثار في فرنسا الى ضرورة لفت أنظار العالم الى هذا الكنز الأثري ومنهم جون بوتيرو, ودومنيك شاربان, وآندره سالفيني. وفي هذا الصدد يقول شاربان في كتابه عن حمورابي أن شريعة حمورابي يجب أن تكون لها شهرة ذائعة الصيت مثل شهرة لوحة الموناليزا وشهرة تمثال فينوس التي تتصدر المعروضات القيمة لمتحف اللوفر ويقف الزوار طوابير لمشاهدتها.
ومنذ بداية ظهور الإسلام نما فقه الشريعة الغراء في العراق وازدهر عندما اتخذ العباسيون بغداد مقراً لهم, وتركزت الحضارة الإسلامية ونشطت الحركة العلمية, وقرّب الخلفاء العباسيون اليهم الفقهاء, واستمرت بغداد مهداً للعلوم الشرعية واللغوية والعقلية وحاضرة العالم العربي والإسلامي.
وفي العراق نشأت عديد من المذاهب وأقام فيها أشهر أئمة المذاهب الشهيرة لتلقي العلوم الشرعية على فقهاء بغداد والكوفة والبصرة, أو المساهمة في نمو الفقه وازدهاره.
وقد ساعد على نمو الفقه اختلاف أجناس أبناء العراق وتعدد ثقافتهم, والمناخ الحر الذي أتاحه فقهاء ذلك العصر للعقل أن يبحث من أجل المعرفة واستعمال القياس وابتداع الأحكام المتمدنة للإستجابة لمتطلبات العصر. لذلك طغى على فقه العراق فقه أهل الرأي أو " فقه العقل ", مقارنة مع فقهاء اماكن أخرى من بلاد المسلمين كانوا يؤثرون رواية الحديث ولا يأخذون بالرأي الا اضطراراً, وغلب عليهم فقه أهل الحديث أو " فقه النقل ".
ولما حكم العثمانيون حصروا القضاء في مذاهب نشأت في العراق وبالأخص المذهب الحنفي, فساعد هذا على انتشار الفقه العراقي وتعلمه في اغلب الأقطار الإسلامية.
ومن الدلائل الأخرى التي تدل على حيوية وتميز القانون في العراق كان بلدنا قد شهد انشاء أول كلية حقوق قبل اكثر من مائة سنة التي تأسست عام 1908 بأسم مدرسة الحقوق العالية, وتعد من أقدم كليات الحقوق العربية. وكان المحامون العراقيون من اوائل الذين مارسوا هذه المهنة في العالم العربي. كما أن ممارسة المراة للمحاماة قديمة في العراق وتعود الى عام 1943 وتعتبر المحامية أمينة الرحال أول إمراة تمارس المحاماة. كما شاركت المرأة في هيئات القضاء منذ زمن بعيد , وكانت صبيحة الشيخ داود أول إمرأة درست الحقوق وتم تعيينها في محكمة الأحداث كباحثة اجتماعية وعضوة في هيئة المحكمة, وبالنسبة لتولي القضاء تعتبر القاضية زكية اسماعيل حقي أقدم عراقية في هذا المجال .
ومما يدعوا للفخر أيضاً أن القانون العراقي الذي أعتبر نافذاً منذ عام 1953 هو أول قانون مدني عربي يتلاقى فيه الفقه الاسلامي مع القوانين الغربية جنباً الى جنب, وهذه التجربة هي من أخطر التجارب في تاريخ التقنين المدني الحديث كما وصفها الأستاذ الجليل السنهوري الذي ترأس اللجنة التي أنجزت مشروع القانون, بعد جهود مضنية طالت فترة طويلة من الزمن.
ولم تقتصر الدلائل الحضارية لدولة القانون في العراق على الصعيد المحلي بل ظهرت أيضاً على صعيد المجتمع الدولي, وكان لفقهائنا الأوائل فضل السبق في وضع قواعد واداب الحرب وانسانية التعامل. واعتبر الفقيه محمد بن الحسن الشيباني, الذي قدم في زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد الى بغداد من الكوفة, المؤسس الأول للقواعد الإنسانية للقانون الدولي , وتكريماً له كانت قد أنشئت في المانيا جمعية بأسمه, حيث يعتبر أقدم وأحسن من ألف في مجال الشرع الدولي , وله كتاب اسمه " السير الكبير " غزير المادة جم الفوائد نال شهرة كبيرة وانتشر انتشاراً واسعاً. وهذا التكريم الدولي للفقيه الشيباني يدل على مدى أصالة واهتمام فقهائنا وتشريعاتنا بالنواحي الأنسانية وسعيهم لتقليل الآثار المدمرة للنزاعات الدولية المسلحة.
وأظهر العراق بعد حصوله على الأستقلال حرصه الشديد على التعاون الدولي من أجل تحقيق الأستقرار والأمن في العالم عن طريق المعاهدات والتي تكون غالباً معاهدات سلام. وحرصاً على المساهمة في الجهود التي بذلت لتأسيس منظمة الأمم المتحدة, شارك العراق مع شقيقاته الدول العربية الأربعة, مصر, والسعودية, ولبنان, وسورية, في مؤتمر سان فرانسسكو ليكون أحدى الدول الخمسين التي وقعت بتاريخ 26 يونيو1945 على ميثاق المنظمة. واعتبر العراق على هذا الأساس بمثابة عضو أصلي في الأمم المتحدة التي حلت محل عصبة الأمم.
كما كان العراق قد سارع لتلبية دعوة الحكومة المصرية ليكون ضمن الدول العربية الست التي وقعت بتاريخ 22 مارس 1945 على ميثاق تأسيس أول منظمة اقليمية ذات توجه عام في العالم, ونقصد بذلك جامعة الدول العربية.
ومما يدعو للفخر كذلك مشاركة العراق في أغلب المنظمات والهيئات المتخصصة المتفرعة عن الأمم المتحدة والجامعة العربية, فضلاً عن مشاركة فقهائنا في العديد من اللجان التي شكلت لتقنين المعاهدات الدولية واعلانات حقوق الإنسان. كما سمحت الفرصة لبعضهم في المشاركة بعضوية محكمة العدل الدولية في لاهاي, وأهم لجان التحكيم الدولي.
وكل هذا وغيره يوضح لنا كيف ساهم أجدادنا منذ الاف السنين وعبر العصور في ابتداع ونشر القواعد والأحكام المتمدنة في التعامل الانساني داخل المجتمع وبين الأمم. وهذه المعاني والدلائل أفضل دافع للعراقيين ليثبتوا أنهم قادرون على تدعيم سلطة الحق والعدل, والتأكيد على أنهم أولى بدولة القانون.

(*) استاذ القانون العام والمقارن/ باريس
e-mail: tanik33@hotmail,com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved