لقد تشكلت في العقود الأربعة الأخيرة من تاريخ العراق ، ثقافة حديثة ، وهي في مواجهة مستمرة بين العقل النقدي, و العقل الأمتثالي، وهذا الفرق صاغ معنى لكلمتي الهامش والمركز. وصار الهامش لا يكترث بالشهرة و الخفوت ، والنجومية و النسيان بل اصيح بموقف فكري نقدي يقترح بديلا اجتماعيا و سياسيا جديدا ، الأمر الذي أدى الى تقييم ثقافة الأنفتاح في مساحة الهامش.. تاركا المركز الثقافي لسلطة تصنع ثقافتها بالتلقين و الردع و تخريب العقول . و اذا كانت هذه السلطات قد عاشت في رحاب الشعر التقليدي ، وعلوم النحو والصرف ، وفتاوي الشيوخ ورؤساء العشائر ، فانها استطاعت في تجدده ( المفتعل ) أن تجدد مثقفها التقليدي ،فيبدو حديثا ، فيتمثل التجديد في المثقف التقني الذي يلبي حاجة ايديولوجية قديمة في لغة تقنية حديثة .حيث المثقف يتعامل مع نص مستقل ، طارئ و متناسيا المجتمع و التاريخ خارجا ومكتفيا بتعابير ترضي الشيطان و الرحمن معا .وبذلك فقد عاش المثقف النقدي هذه العلاقة الصعبة .. يهمش اذا ما قارب السلطة بأدوات النقد ، ويتسييد اذا مارس الأمتثال .لا شك وان الأنتاج الثقافي ،كما المعرفي ، بشكل عام يحتاج الى جملة شروط اجتماعية لا تستطيع السلطة القامعة للثقافة و المتجاهلة لها أن تؤسسها .. ويحتاج الأنتاج الثقافي ، كما تدل الوقائع التاريخية الى دولة مجتمعية تنتج المعرفة ، وفقا لسياسة علمية ، تربط بين الأكتشاف العلمي ، وحاجات الحياة اليومية . فالمعرفة لا وجود لها الا في وظيفة اجتماعية مرجعها سياسة علمية ، توائم فيها الدولة بين نهوض العلم و المعرفة والحاجات الأجتماعية المختلفة . ويمكن لموضوعة الثقافة و الدولة أن تحيلنا الى دراسة الدولة البرجوازية الأوربية، حيث كانت و استمرت الطبقات الحاكمة ، تؤكد كونيتها في نشر ثقافة طبقية لها شكل كوني ، ثقافة برجوازية ، يتم استقبالها شعبيا ، كما لو كانت ثقافة للمجتمع ككل.. ثقافة تفيض عن حدودها الطبقية ، وتتسرب الى مجموع الطبقات الأجتماعية. ان سيطرة المعايير الثقافية للطبقة البرجوازية في تلك المجتمعات كانت تتم بمقولات التضليل و بفاعلية اجهزة الدولة التي تعيد علاقات الأنتاج ، في اعادة انتاجها للايديولوجية المسيطرة . غير ان هذا التضليل المتكئ على قواعد ديمقراطية شكلية، كانت تعتمد أولا على برجوازية مارست تاريخيا دور القيادة و الهيمنة، ومارست الهيمنة لأنها كانت طبقة قائدة تأريخيا ، وقد أنجزت في تحقيق مصالحها الذاتية ، مصالح اجتماعية تتجاوز المعايير الطبقية .واذا ما عدنا الى وضعنا الراهن في العراق ، فلا بد أن نتساءل : هل استطاعت النخب السياسية التي تمسك بالسلطة بعد مرور ثمان سنوات أن تحقق مصالحا اجتماعبة ملموسة ، تؤهلها بأن تقترح سياسة ثقافية يتخذها المجتمع ، ويقتنع بها ، وهنا يجب أن نوضح بأن ربط الثقافة بتوجهات السلطة ، يستلزم تحديد الشكل التاريخي للسلطة ، لأن السلطة بشكل عام لا وجود لها . فوجود السلطة يساوي الشكل التاريخي لوجودها . والسلطة الحالية لدينا لا تشذ عن هذه القاعدة ، فهي سلطة لها تاريخها ، وأنتجها تاريخ محدد. وفرض عليها صفة محددة ، وذلك كله جاء بعد اجهاض متواتر لمحاولات التخلص من حكم ديكتاتوري انفرادي دام لأكثر من ثلاثة عقود ، وحتى جاء التخلص منه بطريقة لم يتمناها الشعب العراقي ، وعلى أيدي احتلال بغيض في عام 2003 م .ان العلاقة المعقدة بين السلطة الجديدة بعد التغيير والدولة المحتلة، أدت الى تحول الأنفتاح الديمقراطي المنتظر الى تبعية من نوع جديد، يمكن وصفها بأنها غياب للسلطة السياسية كمرآة لأرادة شعبية كلية، وقد سعت كثير من النخب السياسية وسط هذه الأجواء الى تأمين مصالحها ، وأعني بذلك ( تأمين مصالح النخبة الحاكمة على حساب المصلحة الشعبية) .. ويذلك فأن السلطة أصبح لها انتماءا مزدوجا غير متكافئ .. فهي تنتمي الى الخارج في ممارساتها المجبرة عليها لارضاء القوى الخارجية التي تكبل حركتها ، وتنتمي الى الداخل في اللغة و الأصول و الخطاب الأستهلاكي .. وينعكس الأنتماء المزدوج في تلفبقية ثقافية هاربة من التاريخ ، تتجلى في ثنائيات متعددة ، العلم و الأيمان ، الأصالة و المعاصرة ، الموروث و العالمية و وحيث يضاف زمن ( البدعة الأقتصادية المتبرقعة تحت اسم "اقتصاد السوق") والسلطة الكونية ، الى زمن قديم مختلق يعشعش في عقول بعض الناس في حين يظل الحاضر الفعلي ، لحظة مغفلة أو حيزا من الزمن لا تاريخ له . وهذا الهروب الوهمي هو الذي قد يدفع النخب السياسية الحاكمة في وضعها المسيطر الى ارجاع التاريخ الى زمن تلك السلطات الحاكمة ، لا بمعنى التاريخ الذي أنتجها ، بل بمعنى التاريخ الذي زورته.ويفضي زمن السلطة المختزل الى نتائج تمس المعرفة و السياسة والثقافة في آن واحد. ان ارجاع التاريخ الحديث الى زمن سلطوي ضيق يلغي امكانية تفهم هموم الثقافة و المثقفين والكتابة الموضوعية للتاريخ ، بقدر ما يلغي امكانية الأقتراب من علم صحيح للسياسة ، أي أن انتاج التضليل عنصر داخلي في ثقافة دولة لا تأبه للثقلفة ولا تعطيها وزنا. ومثلما يقود زمننا السلطوي الى اقصاء الثقافة الموضوعية ، فان اعادة الزمن السلطوي سيكون حتما في اعادة انتاج علاقات التبعية ، وقد تضطر السلطة أولا الى الغاء التاريخ ، وتنتهي بالغاء الفعل السياسي ، محولة القمع الى منهج منسق يصوغ على صورته التاريخ و الثقافة و الحياة الأجتماعية .. وهذا ما لا يحمد عقباه ، وما يخشاه المثقفون العراقيون في يومنا هذا .