تعرف القبة في المباني بأنها إنشاء هندسي معماري مقوس ( منحني ) الشكل، ليس له نهايات زاوية أو زوايا هندسية، وهي تغطي مساحات كبيرة دون الحاجة لوجود أعمدة داعمة وعلى الرغم من سمكها الضئيل، إلا أنها تعتبر من الإنشاءات الأقوى والأثبت ضمن إنشاءاتنا العصرية .
أهم القباب المعروفة في التاريخ المعماري، والأبعاد الرمزية للقبة
استخدم البيزنطيون The Byzantines بعد الرومان، القباب في تغطية الكنائس بمجازات كبيرة جداً تدل على براعة هندسية، كما اهتموا بجمالية القبة من حيث النسب والزخارف ornaments الداخلية التي تضفي جواً من الخشوع والرهبة، ومن أروع منجزاتهم كنيسة القديسة صـوفيا S.Sofia التي بناها جستنيان ( يوستنيانوس ) Justinian في القسطنطينية Constantinople ( اصطنبول Istanbul اليوم ) في الفترة بين 532و537م، حيث أخذت عن الشرق ألوانها وغنى زخارفها الداخلية، وعن الغرب روعة المقياس وجرأة الإنشاء.
بُنيت القبة من وحدات القرميد، وبلغ قطرها 65.32 م، وارتفاعها عن سطح الأرض 54م، وهي محمولة على مثلثات كروية pendentives، وقد حَوَّلها الأتراك إلى مسجد جامع بعد فتحهم القسطنطينية عام 1453م، فأضافوا إليها المآذن الأربع ( الشكل1 ) .
وعلى صعيد العمارة المحلية، شهدت سورية العديد من كنائس فجر المسيحية، التي تميزت بقبابها المركزية . كانت المدرسة المعمارية والفنية السورية منهلاً لأصقاع الامبراطورية البيزنطية كافة .
الشكل (1) الجامع الأزرق
ومن أهم هذه الكنائس كنيسة القديس جورج St.Georges في إزرع، العائدة لعام 515 م، والمبنية من حجر البازلت المحلي، ومسقطها مربع من الخارج، أما صحن الكنيسة فهو مثمن تعلوه قبة مخروطية الشكل conical form، وتمّ الانتقال فيها من المثمن إلى الدائرة بتسوية الحجر بتدرج خفيف .
تطورت هندسة القباب على أيدي العرب المسلمين نتيجة تراكم الخبرات وتنوع مواد البناء إضافةً إلى تقدُّم تقانات وأساليب الإنشاء، فتعددت أشكالها من الداخل والخارج . ويُظهر الشكل (2) نماذج لقباب العالم الإسلامي منها: القبة البصلية المحززة، والقبة المخروطية، والقبة الكروية وغيرها .
الشكل (2)
نماذج القباب المتنوعة في العالم اللإسلامي
الشكل (3) مقطع منظوري في قبة الصخرة
وتعد قبة الصخرة Dome of the Rock في القدس باكورة القباب الإسلامية ( الشكل 4 )، وتعود للعصر الأموي ( 661ـ750م )، شيدها الخليفة عبد الملك بن مروان عام 72هـ، ومسقطها مثمن طول ضلعه 20.95 م، وارتفاعها 31.5م، تتألف القبة من طبقتين، العلوية خشبية تكسوها صفائح من الرصاص وفوقها ألواح من النحاس المذهب . ولها رقبة تتخللها ست عشرة نافذة قوسية للإنارة .
ومن قباب العصر العباسي، قبة ضريح mausoleum الصليبية ( الشكل 4 ) في سامراء Samarra، وهو الضريح الأول في الإسلام، ويضم رفات الخلفاء: المنتصر والمعتز والمهتدي . وهنا بدأت القبة تأخذ بعداً فكرياً فلسفياً، وهو ما يُدعى بالعمارة الرمزية. فالقبة تُمَثِّل السماء، وتعني الأزلية والخير والاتصال بالخالق وبالكون اللامحدود، والمكعب يرمز إلى الأرض باتجاهاتها الأربعة، وفصولها الأربعة، ويعني الفساد والفناء، ورمزت العلاقة بينهما إلى الثنائية بين الخير والشر، وإلى الانعتاق من الفساد باتجاه النفوس السماوية الخيّرة في جدلية معمارية بين القبة والمربع الذي ترتكز عليه، وقد تجلى إيمان المعماريين والأمراء والسلاطين بهذه الفلسفة، التي تعود إلى أصول يونانية ومصرية ورافدية، فيما يُسمى بعمارة المدافن التي كانت القبة عنوانها الرئيسي .
الشكل (6) قبة المقصورة في مسجد قرطبة الكبير
وفي مسجد ابن طولون في القاهرة، الذي بني بين عامي 871و879 م، تتميز القبة بجمالها من حيث الحجم والنحت، والانتقال الرائع من المكعب إلى الدائرة وبتراجع الرقبات التي تستند إليها .
أما القباب الإسلامية في المغرب العربي فكثيرة، ومنها قبة جامع القيروان في تونس، الذي بناه عقبة بن نافع عام 64هـ/663 م، وهي قبة محززة، لها 24 أخدوداً، ولها رقبة تخترقها ثماني نوافذ للإنارة، يحمل الرقبة مثمن مزين بمقرنصات صدفية الشكل في أركان البناء الأربعة .
بعد تأسيس الخلافة الأموية في الأندلس ( إسبانيا ) على يد عبد الرحمن الداخل، شهدت القباب تنوعاً في الشكل وغنىً في الزخرفة، فظهر فيها الرقش Arabesque عنصراً إنشائياً زخرفياً، إضافةً إلى تطور استخدام المقرنصات stalactites التي حلّت محل المثلثات الكروية كعنصر انتقال من المكعب إلى الكرة، ولم يتطلع المعماريون الأندلسيون إلى محاكاة القباب ذات المجازات الواسعة، بل تجلت إبداعاتهم في ترسيخ خصائص المدرسة الفنية الإسلامية التي ابتعدت كلياً عن التصوير .
ويتجسد هذا الأمر في قباب مسجد قرطبة Cordobaالكبير ( الشكل 6 )، الذي ُشرع ببنائه عام 785م.
أما القباب السلجوقية، فأشهرها قبة البيمارستان النوري الذي شيده نور الدين محمود بن زنكي، في محلة سيدي عامود ( الحريقة ) بدمشق، ويبلغ قطرها 5م، وهي على شكل مقرنصات من الداخل ومن الخارج )، كما تشكل نموذجاً فريداً من نماذج العمارة الإسلامية .
وأما أشهر القباب العثمانية، فهي قبة جامع السلطان سليم الثاني Selim II في أدرنة Edirne ( Adrianople )، المشيد بين العامين 1570 و1574م، وهو متأثر بالطراز المعماري لكنيسة آيا صوفيا .
الشكل (7) قبة البيمارستان النوري
الشكل (8) جامع السلطان سليم الثاني في أدرنة
حافظت الفترات الإسلامية المختلفة على الشخصية الخاصة للقباب، التي تميزت بتأكيد الرمزية، وجمالية النسب والحجم المعماري، علماً أن القبة في العمارة الإيرانية تميزت بإضافة التوريق ( الزخرفة النباتية )، واستخدام قطع القيشاني الذي يغلب عليه اللون الفيروزي في السطوح الخارجية . كما في قبة مدرسة الشاه سلطان حسين Chah Sultan Housein في أصفهان Isfahan، العائدة لعام 1710م .
الشكل (9) قبة جيوديزية في مونتريال
أمثلة لقبب منوعة
قباب المسجد النبوي الشريف
شكل تصميم وتنفيذ القباب للمسجد النبوي الشريف تحدياً للإنسان، وبعد نجاحه فيها تحولت في العهود الإسلامية إلى هدايا السلاطين للمساجد . وحاز المسجد النبوي تحديداً على أجيال متتالية من قباب تسابق خلفاء وأمراء على اختيار مكانها وحجمها، حتى أتى العهد السعودي، وأضاف لها سبعاً وعشرين قبةً بمواصفات هيدروكهربائية.
إن المسجد النبوي لم يعرف القباب حتى منتصف القرن السابع الهجري حتى جاء عصر السلطان قلاوون، وانتشرت بعدها القباب في القصور والبيوت . وتتميز القباب الجديدة بمواصفات جمالية، فإن إمكاناتها الميكانيكية تسمح لها بالارتفاع فوق سطح المسجد لأكثر من ثلاثة أمتار، مانحة صحة بيئية لأعماق المسجد من خلال جلب هواء وضوء ينعشان المكان والإنسان.
أن هذه القباب تفتح آلياً من خلال غرفة التحكم، بحيث يتم المحافظة على الهواء البارد داخل المسجد، كما أكد أن مساحة القباب من 16 إلى 18 متراً، وموضوعة على هيكل من الفولاذ، ومرصعة بالأحجار الكريمة ومحفورة ومنقوشة بالأيدي . واستوردت العمارة الإسلامية مفاهيم القباب من أمم سابقة ثم أعادت صياغتها حتى أصبحت فناً إسلامياً، بينما باتت أسقف المسجد النبوي متحفاً معلقاً في السماء، هو الأكبر من نوعه عالمياً .