من مجموع ست مئة طالب في إصلاحيه الأحداث هناك ما يقارب مئة من الصبية تتراوح أعمارهم بين العاشرة والرابعة عشرة . دائرتي في الإصلاحية دائما تعّبر عن نيتها بإبعاد هؤلاء الصبية وذلك بتأسيس معهد خاص لهم. يكون هذا المعهد بمثابة مدرسة صناعية أكثر من كونها إصلاحية. هذا سيعتبر قراراً جيداً خصوصاً أن جنحهم تعتبر تافهة وسيكونون في وضع أفضل في هذا المكان. فلو تم تأسيس هذه المدرسة بالفعل لتمنيت أن أصبح مديرها لأنه سيكون عمل جد سهل بالنسبة لي. فالصبية الصغارغالباً ما يميلون غريزياً نحو العاطفة ويستطيع الفرد السيطرة عليهم من خلال هذه العاطفة طبيعيا وبسهولة.
بعض هؤلاء الصبية حينما أقترب منهم سواء كان خلال عرض مهرجاني أو في المدرسة أو خلال لعبة كرة القدم, تراهم يراقبونني بحذر. ليس بالطبع بشكل مباشر تماما ولكن بشكل سري جدا . بعض الأوقات افاجئهم بهذا الذي يقومون به وأقوم بعمل إيماءة صغيره تشير إلى التقدير والاهتمام , والذي يشعرهم بالرضا مما يجعلهم يتوقفون عن مراقبتي ويركزون اهتمامهم على الحدث الحالي . ولكني بذلك أعرف بأن نفوذي وسيطرتي معززة وقوية.
هذه الصلة الغامضة أو شبه السرية مع هؤلاء الصبية كانت مصدر سعادة مستمرة بالنسبة لي. لوكان هؤلاءالصبية أولادي بحق لعبرت لهم عن مشاعري بدرجه أكبر بدون أدنى شك. ولكني في كثير من الأوقات تراني أجول فيما بينهم ثناء هذه المواكب الاستعراضية المنظمة والصامتة واقف بجانب أحدهم. عندها تراه ينظر مباشرة أمامه وترتسم على وجهه نظرة تركيز مع قليل من التجهم, والتي تعبر هذه النظرة عن كل من إدراك طفولي ولا مبالاة رجولية كونه بالقرب مني.
في بعض الأحيان أقوم بقرص أذنه, تراه عندئذ يبادرني بابتسامة مقتضبة ملؤها الأمتنان, أو تراه يعبس بتركيز أكبر. أظن أن هذا كان شيئاً طبيعياً بأن يقلل الصبي هذه الإشارات الظاهرية إلى اقل ما امكنه ذلك. ولكن هذه التعابير تعتبر رمزية وبعض الأولاد الأكبر سناً يلاحظونهم ويعتبرون أنفسهم مشمولين بها .
عندما كانت الإصلاحية تمر بمراحل من المشاكل والمشاحنات وعندما اشعر بخطر القطيعة بين ادارة المصلحة والصبية هنا اتدخل لأنقاذ الموقف, لتتحول تلك الإيماءات البسيطة والفطرية تأكيدات لي وللصبية بأن لا شيء ذا أهمية قد تغير.
في كل يوم احد وبعد الظهر وحينما أكون أثناء مهمة ما, أقود سيارتي إلى الإصلاحية وأشاهد الأولاد الذين يحين إطلاق سراحهم منها يوقعون على الخروج من البوابة الرئيسة. هذا الإجراء البسيط كان أيضا يُشاهد من قبل أولاد آخرين غير محررين تراهم يقولون لبعضهم البعض خلال عدة أسابيع سوف أوقع خروجي بنفسي. من ضمن المراقبين لهذا الحدث صبية صغار. هؤلاء الصبية غالباً ما آخذهم بالتناوب في جولة بالسيارة. كنا نذهب إلى طريق بوتشفستروم والذي يعج بتيار متواصل من إشارات المرور ثم إلى تقاطعات شارع براجواناث والعودة مجددا من شارع فان وسكرس ومنه إلى الإصلاحية. في هذه الأثناء أتحدث معهم وأسألهم عن أسرهم وعن والديهم وعن إخوانهم وأخواتهم وأتظاهر بأني لا أعرف شيئا عن مدينة دربن وبورت إليزابيث وبوتشفستروم وكلو كولان. كما أسألهم إذا كانت هذه المدن والأماكن أكبر من مدينة جوهانسبرغ .
أحد هؤلاء الصبية يدعى هابيني وكان يبلغ من العمر اثني عشر عاماً. جاء من مدينة بلومفونتاين وكان من أكثر الصبية ثرثرة. أمه كانت تعمل في بيت أحد الأسر ذات البشرة البيضاء ولديه من الإخوة اثنان هما ريتشارد وديكي ومن الأخوات أنا ومينا.
"ريتشارد وديكي؟" سألته.
"نعم سيدي"
قلت له بإن ريتشارد وديكي هما نفس الاسم في اللغة الانجليزية .
عندما عدنا إلى الإصلاحية طلبت أوراق وسجلات هابني. وها هي سجلاته وأوراقه مبثوثة أمامي. هابيني كان لقيطا بدون أقارب على البتة. تنقل من منزل إلى اّخر، كان سيئ الطبع والسلوك وكان من الصعب السيطرة عليه، أخيرا تم القبض عليه بتهمة سرقة أشياء تافهة في أحد الأسواق .
طلبت عندها كتاب المراسلات المحفوظة الخاصة به، اكتشفت أنه كان يكتب بانتظام – أو بالأحرى كان هناك اخرون يكتبون له- حتى تمكن هو من القدرة على الكتابة بنفسه إلى سيدة تدعى بتي مارمان والتي تقطن في شارع فلاك 48 بمدينة بلومفونتاين. ولكن السيدة مارمان لم ترد على خظاباته على الإطلاق، وحينما كان يُسأل عن السبب، يقول بأنها ربما تكون مريضة.
على الفور جلست وكتبت حينها إلى موظف الخدمة الاجتماعية في مدينة بلومفونتاين للتحقيق بشأن هذا الصبي.
في المرة التالية التي أخذت فيها هابني في جولة بالسيارة, سألته مرة أخرى عن عائلته وأخبرني بمثل ما أخبرني به من قبل عن أمه وريتشارد وديكي وعن انا ومينا ولكنه هذه المرة خفف من صوت الحرف (د) لاسم ديكي حيث أصبح يُنطق هذه المرة تيكي .
"أعتقدت انك قلت ديكي", قلت له.
قلت تيكي", رد الصبي.
راقبني بخوف غامض. عندها وصلت إلى نتيجة مفادها أن هذا الصبي اللقيط من مدينة بلومفونتاين يتمتع بذكاء وحذق حيث أخبرني بهذه القصة من وحي خياله وغيّر حرف واحد فيها ليكون بمأمن من المساءلة، وأنا الذي اعتقدت بأني فهمت القصة كاملة وبأنه كان يشعر بالعار لكونه بدون عائلة وأنه اختلق هذه القصة حتى لا يكتشف أحد بأنه بلا أب ولا أم، وأن لا أحد في هذا العالم يهتم به سواء كان حيا أو ميتا، هذا منحني شعور قوي لأتعاطف معه حيث مضيت في طريقي بإظهار شعور الرعاية الأبوية نحوه، وذلك حينما الزمتني الدولة المسؤلية للقيام بهذه الوظيفة أو هذا النوع من العمل، وإن كان بالطبع ليس بهذا المعنى للكلمة.
بعدها وصل الخطاب من موظف الخدمة الاجتماعية من بلو مفونتاين يخبرني فيه بأن السيدة مرمان القاطنة في شارع فلاك 48، هي شخصية حقيقية ولديها أربعة أطفال هما ريتشارد وديكي، انا ومينا، ولكن هابني ليس أحد أطفالها، إنما كانت تعرفه كمشرد وكأحد أطفال الشوارع المنبوذين ولم تكن ترّد قط على رسائله لأنه كان يكتب لها مخاطبا إياها (يا أمي) وهي لم تكن أمه ولم ترغب أن تقوم بهذا الدور، هي امرأة لطيفة ومؤمنة من المواظبين على حضور الكنيسة ولم تكن ترغب أن يتأثر أحد أفراد عائلتها سلوكيا من خلال أي علاقه بهذا الصبي.
لكن هابيني لم يبدو لي إلا كصبي جانح ورغبته في أن تكون له عائلة كانت قوية، وسجلاته في الاصلاحية توضح بأن لاشائبة عليه وأن توقه للإرضاء والطاعة كان كبيرا، عندها بدأت أشعر بأنه يتوجب علي القيام بمهمة كبيرة تجاهه، لذلك سألته عن من يسميها (أمه). لم يتحدث بما فيه الكفاية عنها. كما أنه لم يتحدث عنها بذلك التقدير العالي . السيدة مرمان محبة وصادقة وفي نفس الوقت حازمة. منزلها كان نظيفا وهي تملك عاطفة قوية لأولادها، كان من الواضح أن هذا الصبي المشرد ربط نفسه بها بمثل ماربط نفسه بي. وكان ينظر لها كما كان ينظر لي ولكنه لم يكن يعرف السر للوصول إلى قلبها حتى يمكنها أن تأخذه إلى بيتها وتنقذه من هذه الوحدة التي يعيشها .
"لماذا كنت تسرق اذا كان عندك مثل هذه الأم؟" سألته, لكنه لم يجب على ذلك. جميع مداركه وحتى شجاعته لم تسعفه لإيجاد إجابة على هذا السؤال، لأنه لو يعلم بوجود مثل هذه الأم في حياته لم يكن يفكر بالسرقة أبداً.
"اسم الولد ديكي وليس تيكي " , قلت له.
عندها عرف أن الخدعة تم اكتشافها. لوكان صبي آخر لربما قال "أنا أخبرتك بأنه ديكي", ولكن لديه من الذكاء ما منعه من فعل ذلك، هو يعلم بأني لوبرهنت له أن أسم الولد كان ديكي، لأمكنني كذلك إثبات براهين أخرى.
لقد دهشت بمدى سرعة ووضوح تأثير ردة فعلي عليه. كل ثقته الجريئة تلاشت بداخله, ووقف عندها هناك مكشوفاً. ليس لكونه كاذباً, ولكن بصفته صبي مشرد بلا مأوى, أحاط نفسه بأم وأخوان وأخوات ليس لهم وجود. لقد حطمت أسس كبريائه وأهمية حسه الإنساني .
سقط من لحظتها مريضا, وشخص الأطباء مرضه بالسل. في الحال كتبت إلى السيدة مرمان وأخبرتها بتفاصيل القصة وكيف كان ينظر هذاالصبي الصغير إليها بحيث قرر أنها الشخص المناسب والذي كان يرغب بأن تكون له أمُاً.
لكنها ردت علي بأنها لا تستطيع تحمل مسؤولية هذا الصبي لجهة أن هابيني كان ينتمي إلى قبيلة الموستو .وهي امرأة ملونة, ومن جهة أخرى لم يكن لديها اولاد ذوي مشاكل فكيف لها ان تضم لعائلتها صبي كهذا صاحب مشاكل .
السل مرض غريب حقا . في بعض الأحيان تراه يُظهر نفسه بجلاء فجاءة في الشخص المضيف الغير محتمل ويسحقه بسرعه حتى النهايه . انسحب هابني واعتزل العالم بكل مافيه من مدراء وأمهات. بعد ذلك أخبرنا الطبيب بأن هناك أمل ضعيف في بقائه حيا.
بعدها وفي حالة يأس أرسلت نقودا للسيدة مرمان طالبا منها المجيء. كانت امرأة مهذبة ومتواضعة وحين علمت ورأت أن الوضع جد خطير تبنت هابني بدون احداث أي ضوضاء وإحراج. قبلها جميع أفراد الإصلاحية كأم لهابني. جلست معه طوال اليوم تحدثه عن ريتشارد وديكي وانا ومينا, وكيف أنهم ينتظرون بشوق لقائه في البيت. لقد منحته كل عواطفها ولم يتملكها الخوف من نوعية مرضه. كما لم تسمح لهذا المرض من منعها عن تلبية رغبته الملحة في أن يتم تبنيه من قبلها. كانت تحدثه عما سوف يقومون به حين العودة إلى البيت, وكيف سيذهب إلى المدرسة وما سوف يشترون في ليلة الاحتفال السنوي بذكرى جاي فوكس.
في المقابل منحها جل اهتمامه، وحينما قمت بزيارته كان ممتنا لذلك. ولكني شعرت بأنني خرجت من عالمه. شعرت بأنني مُحاكم كوني شعرت به كوجود فقط ولم أكن احس بعمق ومدى حدود أمنياته وتطلعاته. لطالما تمنيت بأنني لو استطعت مساعدته بعمل ما بشكل افضل وأسرع من ذلك. عمل أكثر حكمة وأكثر سخاء.
دفناه في المزرعة الخاصة بالإصلاحية . قالت لي السيدة مرمان: "حينما تضع الصليب على القبر, اكتب أنه ابني .أشعر بعار وخزي لترددي سابقا في ضمه الي".
"المرض" قلت لها, "المرض حتما كان سيأتي".
"لا", قالت وهي تهز رأسها بثقه "لا, كان يمكن أن لايأتي. وحتى لو أتى هذا المرض وهو موجود في البيت لكان الوضع مختلفاً".
غادرت السيدة مرمان متوجهة إلى بلومفونتاين بعد زيارتها الغريبة إلى الإصلاحية. كما غادرت أنا أيضا وكلي عزم وتصميم بأن أكون اكثر سخاء في بذل مجهود في المهمة التي أوكلتها إلي الدولة. وبتعبير اقصر ,تم فرضها علي.
الاَن باتون
ولد الآن باتون في جنوب إفريقيا عام 1903 وتوفي 1988. يعتبر الكاتب احد ابرز المناهضين لسياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. تعتبر روايته ابك يا بلدي الحبيب أشهر ما كتب على مستوى الرواية.
المترجم
عصام محمد الجاسم ( Essam Mohammed Al Jassim )