إن غياب مفاهيم التنمية المُستدامة وضعف الجانب الهندسي في التخطيط الإقليمي والحضري ، ضمن ممارسات وحلول ترقيعية قصيرة الأمد ، أفقدته محتواه ومفهومه وساعد ذلك في وجود قصور في الربط بين الجانب السياسي والوعي في التخطيط الإقليمي والحضري.
عندما كانت تأخذني الطائرة التي تقلني إلى أي مطار من مطارات اوربا وبالإقتراب من الأرض ، تشدني مناظر البيئة الحضرية التي أشاهدها من النافذة ، فالغابات واضحة ومُصانة لايتعدى عليها أحد ولا تزحف عليها المدن أو القُرى القريبة منها . والمناطق الخضراء لا تُهدَم ليقام عليها مصنع . كما أشاهد هناك مخططات إستخدام الأرض واضحة جلية على الطبيعة بمقياس 1/1 كما وضعها المخططون على الورق ، فهناك تخطيط مُسبق ومجتمع محلي يُناقَش ، وقوانين تحمي التخطيط ، وأجهزة تراقب وتنفذ وتتابع.
منذ ستينات القرن الماضي وبغداد العاصمة تواجه من المشاكل البيئية المعقدة بسبب الأنشطة الصناعية وسوء توزيع مواقعها ووجودها في قلب العاصمة . مثل المنطقة الصناعية في شارع الشيخ عمر ، ومعامل الجلود في الكرادة ، ومعامل الطابوق في الكمالية ومعامل البطاريات والسباكة ومصفى ومحطة كهرباء الدورة ، وكافة المعامل الصغيرة والصناعات الحرفية ، مثل محلات صهر المعادن ومعامل الفخار ، ومحلات اللحام المُنتشرة كسرطان مُستشري في أوصال المدينة ، والتي لا يتم معالجة مخلفاتها بالشكل المطلوب ، ناهيك عن مخلفات المستشفيات والتي هي الأخرى لا تجد معالجات مدروسة لها.
ويعاني مدخل محافظة بغداد من الناحية الشمالية عند بوب الشام وشاعورة وأم جدر أوضاعاً مأساوية ، لا تجعل هذه البوابة مدخلاً لمدينة مُتحضرة . كل هذه تسبب أضراراً خطيرة على الصحة العامة والبيئة.
إذاً لا بد من البدء بالتفكير بإنشاء مدن صناعية جديدة خارج حدود المخطط العام للمدينة لتخليصه من مصادر التلوث ومخاطره ولإضفاء طابع حضاري على هذه المدينة التي يشهد التاريخ بأنها كانت ويجب أن تبقى تمثل الرقي الحضاري لفترات مهمة من تاريخ البشرية.
في تلك المدن الصناعية الجديدة ، لا بد من وضع أسس سليمة لآختيار مواقعها ومعرفة مدى إلتزامها بالشروط المناسبة للحفاظ على البيئة وسن قوانين صارمة لتحقيق ذلك وأعدادها إعداداً جيداً ، لتجنب أخطاء عديدة على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي والتقني والبيئي والصحي . وفيما يلي بعض الإعتبارات المهمة التي يجب أن تُراعي في هذا الخصوص :
• إعتبارات بيئية في إختيار مواقع المدن والتجمعات الصناعية:
1- أن تكون بعيدة عن إتجاهات نمو المناطق السكنية.
2- أن تكون في عكس إتجاه الرياح السائدة على المناطق السكنية.
3- أن تكون في موقع يخدم البيئة المحلية من الناحية الإقتصادية والإجتماعية.
• المحافظة على التوازن البيئي:
1- التوزيع الأمثل للإستعمالات داخل المدن الصناعية.
2- التخطيط الهندسي الجيد مثل اتساع الشوارع الرئيسية والفرعية وترك مساحات على جوانب هذه الشوارع لزراعة الأشجار.
3- تخصيص مساحات لزراعة الحدائق والمسطحات الخضراء ، في مواقع مختلفة في المدينة.
4- تخصيص محطة تنقية لكل مدينة صناعية مصممة لتستوعب الحمل الهيدروليكي الكامل.
5- تصميم شبكة صرف صحي تخدم جميع قطع الأراضي ومراكز الخدمات داخل المدينة الصناعية.
6- تصميم شبكة صرف مياه الأمطار.
7- تحديد نسبة البناء المشيد حيث لا يتجاوز نسبة البناء المُشيّد مقدار 50% من مساحة الأرض بالإضافة إلى تحديد إرتفاع المباني.
وتتيح هذه الإعتبارات للملوثات إن وجدت فرصة الإنتشار والتشتت بدلاً من التركز والتجمع بالإضافة إلى أن مصدر الطاقة المعتمد داخل المدن الصناعية يعتبر مصدراً نظيفاً ، حيث تعتمد معظم الصناعات على الطاقة الكهربائية في عملية الإنتاج.
• الإجراءات الإدارية والإدارة البيئية الكاملة التي تكفل المحافظة على البيئة من التلوث:
إنشاء مديرية البيئة والسلامة العامة وأقسام البيئة في المدن الصناعية التي تتولى تقديم الخدمات وإدارة المخلفات الصناعية لتحقيق شعار (تنمية بلا تدمير للبيئة) وبالتعاون مع المؤسسات الأهلية والرسمية داخل المدن الصناعية والجهات الرسمية المعنية وذلك في المجالات التالية:
1) في مجال الزراعة (التخضير):
- تخصيص مساحات كبيرة وزراعتها بالإشجار على جوانب الطرق ومحيط المدينة.
- زراعة الحدائق داخل إرتدادات المصانع المقامة.
- تنظيم الحدائق داخل المصانع المُقامة.
وإني أرى إن هنالك أهمية قصوى لدراسة هذا الموضوع بتوسع أكبر من قبل المتخصصين في وزارة البيئة وفي أمانة بغداد والشعبة المعمارية في نقابة المهندسين العراقيين والأقسام المعمارية في الجامعات العراقية ، والمكاتب الإستشارية الهندسية العراقية .. وذلك من أجل وقف التجاوزات والأخطاء والتخطيطية التي تنقل كاهل عاصمة وطننا العزيز العراق.
د.هاشم عبود الموسوي
رئيس قسم هندسة العمارة / الجامعة الملكية البريطانية / أربيل