لقد ظلّت فكرة تكلّم الحيوانات مع بعضها في هذا العالم ( كما نتكلم نحن بني البشر ) مُنافية لعقول الأطفال وتقبلهم لها .. وبقت الإجابة على هذا السؤال مُشوّقة فيما إذا كانت اللغة مُقتصرة على الجنس البشري فقط.
فجواب هذا السؤال يعتمد على معرفة مميزات لغة الإنسان لأنه إذا اعتبرت اللغة كنظام للإتصال فإن ذلك يجعل كل المخلوقات تستعمل لغة مُناسبة لها ومن المُلاحظ أن الإنسان يستعمل عدة أنظمة أكثر من إستعماله للغة ، ليبقى في إتصال مع أقرانه ولكي يرسل الرسائل ولكي نفهم لغة الإنسان نحتاج إلى معرفة الأشياء الخاصة والفريدة باللغة . فإذا وجدنا أنه لا توجد هناك ملكات خاصة للإنسان بالنسبة للغة فإننا سنحكم على اللغة بأنها ليست مقصورة على الإنسان كما يدعي !
معظم الجنس البشري يكتسب اللغة بآستخدام أصوات الكلام لكي يعبر بها عن معنى ، ولكن هذه الأصوات ليست من الضروري أن تكون وجه اللغة ، إذ أنَّ كلاً من شقشقة الطيور وصرير الدلافين ورقص النحل أنظمة مُشابهة للغة البشر ؟!
ولن تكون أوجه الإختلاف في أنظمة الإتصال بين الحيوان والإنسان بسبب عجز الحيوان من إمتلاك أصوات الكلام ، فإذا استطاعت الحيوانات تقليد كلام الإنسان فهذا لا يعني أن الحيوانات قد امتلكت اللغة والعكس.
إذاً اللغة هي ذلك النظام الذي يربط الإصوات بالمعنى ، أو الإيماءات بالمعاني. والطيور الناطقة مثل الببغاء والمينة القادرة على إستخراج عبارات وكلمات من لغة الإنسان ، فالطيور تقلد ما تسمع ، فعندما يقول الببغاء (بغبوغة) * تريد بسكويت فربما تريد سندويش أو ماء للشرب أو لا شيء على الإطلاق .
وعندما يتعلم الطير كلمتي "مرحباً" أو " إلى اللقاء" فإنه يقولها دون اهتمام سواء عند وصول الناس أو مغادرتهم ، فتعابير الطيور لا تحمل معنى ، إذ عندما تقلدنا لا تتحدث اللغة العربية ولا لغتها.
إن الطيور الناطقة لا تفسر أصوات تقلّدها في وحدات متميزة فالأسمين بولي ومولي ليستا متحدي القافية بالنسبة للبغاء بل مُختلفتان كمرحباً أو مع السلامة .
ومن خصائص لغة الإنسان الإنفصال " الإنفراد" في الكلام أو الإيماءات التي تكون منظمة أو مُعادة التنظيم ومحددة ومُتجزئة إلى أجزاء.
الببغاء يقول ما تعلمه أو ما يسمعه فإذا تعلم (بغبوغة) تريد بسكويت او تريد كعكة وأيضاً تعلم كيف يقلد كلمة مَيّة * شوية ** فإنه يقولها عفوياً " تلقائياً " كما يقول الأطفال تريد بغبوغة ماءً أو تريد بغبوغة شويّة و قطة وقطط وكلب وكلاب ثم ببغاء فهو لن يكون قادراً على صياغة الجمع من كلمة ببغاء كما في كلمة قطط . فالمُلاحظ ان الببغاء لا يجزئ الكلام لأن ليس لديه القدرة على تكوين التعابير من بعض الكلمات وإن قدرته تقتصر على إنتاج أصوات شبيهة بأصوات الجنس البشري فقط ، وليس لديه القدرة على تعلم اللغة .
لقد وضح الفيلسوف والرياضي (ريني ديكارت RENE DESCARTES) * في القرن السابع عشر أن اللغة لا تعتمد على القدرة الفسيولوجية لآستخراج الكلام أو الأصوات ، حيث فسّرَ ذلك قائلاً:
( ليست الحاجة ماسة إلى أعضاء النطق التي تحرم الحيوانات من الكلام لأن من الواضح أنَّ العقعق **والببغاء لهما القدرة على التفوه أو النطق ولكنهما لم يستطيعا الكلام كالجنس البشري . فالإنسان الذي يولد أصم وأخرس تجده بنفس الدرجة أو أكثر من الحيوانات وأيضاً فهو محروم من أعضاء النطق التي تمكن الآخرين من الكلام وتدريجياً يتعلم بالعادة حتى يتمكن من تفهيم الآخرين ماذا يريد ) ..
وسنعرض أنظمة إتصالات لحيوانات مُختلفة للتعرف على بقيّة المخلوقات وهل لديها القدرة على إدقان اللغة كالإنسان ؟.
أولاً : لغة الدلافين
سَرَدَ لي مرة أحد الأساتذة حادثة وقعت له قبل أكثر من أربعة عقود ، عندما كان في مرحلة التحضير للدكتوراه في كييف ، وقد انضم إلى مجموعة من الطالبات والطلاب القائمين برحلة ترفيهية في مدينة اوديسا ، وحيث كانوا مساءً يتمتعون بصيف دافئ على ساحل البحر .. خطرت له فكرة ، (وهو في قمة الإنتشاء بإعجاب زميلاته وزملاءه بجسمه الرياضي وعضلاته المفتولة ) ، أن يقوم بالسباحة إلى أبعد مسافة لم يستطع أياً من زملاءه الوصول إليها . وبعد أن ابتعد كثيراً عن الساحل ، وجد نفسه لا يستطيع رؤية الأنوار على الشاطئ ولا يتمكن من تحديد الإتجاه الذي يجب عليه أن يسلكه في سبيل الرجوع الى المكان الذي انطلق منه .. توّجه في أول الأمر إلى عدة إتجاهات ، وغير وجهات توجهاته تكراراً .. ولكن دون جدوى لم يجد هنالك من بصيص أمل يأتيه في وسط الأمواج المُتلاطمة بذلك البحر الواسع الرهيب .. أخيراً بعد أن يأس من إمكانية النجاة ، استسلم للأمر الواقع ، مُحاولاً العوم فقط دون تحريك الأطراف أو السباحة وأيقن بأنه غارقٌ لا محالة .. فجأة شعر بأن أمواجاً خفيفة خلفه تدفعه إلى إتجاه مُحدد . في يأسه هذا إستسلم لهذه المويجات ظناً منه بأن الموت آت . ولا فرق أن يكون في أي مكان من البحر .. بعد فترة مع الإذعان لتلك القوة الخفية التي كانت تدفعه ، بدأ يرى إضاءات بعيدة في الساحل .. مما أعاد له الأمل بالنجاة والسباحة والوصول إلى تلك الومضات البعيدة المُنعكسة على صفحة المياه .. وعندما عادَ إلى زملاءه وقصَّ عليهم ما جرى له ، أخبره أحدهم .. وهو من سكّان اوديسا بأن الذي كان يحرك هذه الموجات الدافعة من خلفه هو أحد الدلافين . وإن ظاهرة قيام الدلافين بإنقاذ البشر معروفة لدى سكان تلك المناطق.
هذه القصة أثارت لدي الفضول .. فتوجهتُ إلى أصدقاء لي من أساتذة أقسام علم الحيوان بكليات الزراعة ، والبيولوجي في كليات العلوم مُتقصياً عن أسرار هذا الحيوان العجيب .. وقد سجلت كثيراً من المعلومات المهمة في هذه المقالة ، ووددتُ أن أورد ما ذكِرَ لي بخصوص إشاراته وقابلياته اللغوية.
لا يزال الباحثون يحاولون إثبات أن ديكارت على خطأ فعند ظهور الدولفين المؤهل بدأت المُحاولات لإثبات أن اللغة ليست حكراً على الأنسان.
فالدولفين له دماغ يُماثل في حجمه دماغ الإنسان ، حيث أن سطحه ولحاء المخ لديه مجعداً جداً مثله مثل المُخ البشري والتجاعيد ترجع لرقة لحاء المخ حيث أن دماغ الدلفين أقل تعقيداً من دماغ الأرنب لآحتوائه على خلايا عصبية أقل ، ولكن الدولفين لا يستخدم الأصوات للإتصالات فهو ينتج أصواتاً كالفرقعة وعلى أية حال فهي ليست للإتصال بدولفين آخر ولكنها عبارة عن أصوات إستكشافية لكي يتمكن من التعرف على مواقع الأشياء بالسهولة التي تصادفه بطريقه مثل الوطواط.
وكذلك تصدر الدلافين أصواتاً عالية جداً وهمسات . والمحلل لوحدات هذه الأصوات يظهر بأنها كمثيلاتها من الإشارات التي أطلقتها بعض الحيوانات الأخرى مُرتبطة بالمواقف العاطفية ، فالهمسة ذات النغمة الساقطة ترمز إلى إنزعاج الدولفين وأحياناً يدل على نداء للأنثى ، والحيتان أيضاً تنتج همسات أو إشارات صوتية ذات نغمة صغيرة وهي تنطلق إلى مسافات بعيدة تحت الماء.
وأغانيه طويلة جداً وهي تبدي تغيرات خارجية مُعقدة ولم يتمكن أحد من معرفة أي شيء تعنيه ، ويبدو أنها تنتج إستجابات يفهمها حوت آخر.
فالعديد من أصحاب التجارب تعاملوا مع الحيتان والدلافين لآختبار قدرتها الإتصالية ففي إحدى التجارب وضع ذكر وأنثى دولفين في خزان خاص وكان للأنثى وميض (ضوء) متقطع ومستمر . وأما الذكر فلم ير الضوء ولا الأنثى فقد كانت المهمة على النحو التالي :
إذا ظهر الضوء المستمر فعلى الأنثى أن تضغط على مجداف اليد الأيمن وأن تبلغ الذكر عن طريق ندائها بأن يضغط على مجدافه الأيمن أيضاً ، وإذا ظهر الضوء المُتقطع فعلى الأنثى ان تضغط على المجداف الأيسر وأن تبلغه مرة أخرى أن يضغط على المجداف الأيسر ، وفي حالة الإستجابة بشكل صحيح يمكنهما الحصول على الطعام وعلى الرغم من أن الذكر لم ير الأنثى ولا الضوء فقد كانت إستجابته نتيجة للإشارات التي وصلته من الأنثى وكان في البداية يُعتَقَدْ ان الدلافين كانت تتكلم بالإشارات ولكن بعد ذلك إتضح أنها تعلمت مهامها كآستجابات وسلكت سلوك كلاب بافالوف * "PAVLOV" أكثر منه كآتصال بشري. فالفيزيائي الروسي الكبير بافالوف درب كلابه على أن تفرز اللعاب عندما تسمع قرع الأجراس وإلا فلن يُجلَبْ لها الطعام وبهذا الطريقة قامت الأنثى بدفع مجدافها وإصدار ندائها حتى عندما استطاع الذكر أن يرى الأضواء وقام بذلك حتى بعد أن وُضِعَ الذكر خارج الخزان.
كانت لنداءاتها إرتباطاً بسيطاً مع رغبتها في الإتصال مع الذكر فقد أدت عملها لأنه كان يتوجب عليها ضغط المجداف وإعطاء الإشارات لكي يكافئها بالأسماك.
ولم تكترث كثيراً ما إذا كان الذكر قد تناول طعاماً أم لا. فقد أصبح الذكرمُجبَراً على التعود على المجاديف والإشارات وبعد أن تعود على ذلك تمكن من ملء بطنه.
وهذه الدراسات لأنظمة الإتصالات بين الحيوانات تمدنا بدليل على تمييز ديكارت بين الرسائل الحيوانية الثابتة المُتعلقة بالحوافز وبين القدرة الإبداعية اللغوية التي يمتلكها الحيوان الإنسان.
للحديث صلة