
لم تكن الفتاة أمل طه القادمة من مدينة الكوت إلى بغداد لتدرس المسرح في أكاديمية الفنون الجميلة عام 1974، قد قررت بعد أن تكون الناطقة باسم الحزانى في العراق، وما أكثرهن، كانت تريد فقط أن تتعلق بأحلامها الشخصية، والتي كانت مزيجا من ثوريات ورومانسية يسارية، وروايات عن الوجود والعدم، كان المسرح حينذاك مدينة ملونة وجميلة، وكانت بغداد نفسها مسرحا للجمال متعدد الزوايا.
"نارك عيني نارك".. لترقد روحك المعذبة بسلام
في سنوات الدراسة التي امتدت حتى العام 1978 تعرفت الفنانة العراقية الراحلة حديثا أمل طه إلى موجة من أبرز مسرحيي العراق، من مخرجين وكتاب وممثلين وتقنيين .
المسرح حينذاك، كان مدينة ملونة، وحصنا للحالمين، وكانت أمل من أبرز أولئك، وربما أحلامها هي التي تعثرت بعيني المخرج التلفزيوني فلاح زكي لكي يختارها بطلة لواحدة من أنجح الدرامات التلفزيونية الشعبية في تاريخ العراق، وأقصد تمثيلية “سينما”، هذه التمثيلية، التي شاركها بطولتها الفنان الراحل محمد القيسي والفنان عزيز كريم، دخلت إلى البيوت العراقية في لحظة حاسمة من تاريخ العراق في العام 1977 .
ولأننا في العراق، فإن لفظة حاسمة هنا تتصل والسياسة بمختلف تفرعاتها، لقد كان ذلك التاريخ علامة على تبدلات وتحولات على مختلف الأصعدة، لقد دخل التلفزيون الملون إلى أغلب البيوت الآن، وكان طقس السينما، لم يزل طقسا عائليا، خصوصا في بغداد، لم تخربه السياسة وما صنعته لاحقا من انحطاط طال كل شيء.

كوميديانة متميزة
دخلت تمثيلية “سينما” البيوت فتلقفها الرجال والنساء والأطفال، على حد سواء، بوصفها بطاقة مرور أمل طه إلى قلوب الناس، وهل ينسى حضورها الساطع بين ممثلين محترفين في التقمص، وبالأخص الراحل محمد القيسي؟ هل من داع لكي نقول إن هذه التمثيلية مازالت إلى اليوم تحقق نسب مشاهدة عالية في العراق، وأن جملة “نارك عيني نارك” ستعبر حاجز الأربعين عاما في وجدان الناس، على ما مرّ بهم من أهوال خلال تلك السنوات؟
تغيرت أمل طه بعد ذلك التاريخ، لنقل إنها صارت نجمة في الشارع العراقي، ولقد كانت النجومية متاحة آنذاك لمن يريد أن يصنع لنفسه وضعا في الدراما العراقية، النجومية التي تحصلت عليها أمل كانت في واحد من أصعب وأرقى الفنون التمثيلية، وهو الكوميديا.
والكوميديا في العراق قصة متذبذبة، لم تبدأ مع يوسف العاني، وإنما مع جعفر لقلق زادة، من المؤكد أن العاني قام بنمذجتها، ووضعها في قالب شعبي عراقي متطور، ولكنه لم يكن ممثلا كوميديا فقط، بالمعنى العلمي للمصطلح، وإنما كان ممثلا يتقن أداء مختلف الأدوار، ومن ضمنها الكوميديا .
ممثلون آخرون مروا في هذا الدرب الشاق، أبرزهم سليم البصري، والذي يصفه عشاقه بأنه ملك التلقائية في الأداء، ثم الخليلان: خليل الرفاعي وخليل عبدالقادر، ووصولا إلى نجوم المسرحية الاستهلاكية في الثمانينات والتسعينات، ثم المسرحية البذيئة ما بعد ذلك .
بالرغم من أن أمل ابنة المسرح، إلا أن التلفزيون احتكرها، كان يدرك أنها ستكون سفيرته إلى البيوت
في هذه الرحلة، التي تمتد إلى أكثر من خمسين عاما، وصولا إلى لحظة أمل طه، لم تكن المرأة الكوميديانة حاضرة حضور زميلها الكوميديان، يمكنك أن تعد الكثير من الأسماء الرجالية في هذا المجال، يمكنك، أيضا، أن تعاتبني لأنني أغفلت سهوا، في السطور السابقة، اسم قاسم الملاك مثلا، أو محمد حسين عبدالرحيم، ولكنك لن تستطيع أن تشير إلى ممثلة عرفت بوصفها ممثلة كوميدية، كلهن مثلن مختلف الأدوار، ومن ضمنها الكوميديا، من المؤكد أن ذلك يحسب لهن، ومن المؤكد أيضا أن ذلك ليس بسبة على أمل طه، بل بطاقة تميزها وتفردها.
لقد اختارت، إذن، وربما جمهورها أراد أن يراها ممثلة كوميدية، ومن الأفضل ألا ننسى المخرجين في هذا المجال، ذلك أنهم تضامنوا مع نجوميتها الجديدة، ومع الابتسامات التي كانت ترتسم على الوجوه، كلما قدم تلفزيون بغداد تمثيلية “سينما”.
وبالرغم من أنها ابنة المسرح، إلاّ أن التلفزيون احتكرها، كان يدرك، أي التلفزيون، أن أمل طه ستكون سفيرته إلى البيوت، لقد اشتعلت حرب الثماني سنوات مع إيران، وصارت البسمة نادرة مع قوافل الشهداء التي ملأت الشوارع. هنا، ظهرت أمل من جديد، وهذه المرة مع الممثل محمد حسين عبدالرحيم، والبرنامج الإنتقادي الدرامي “استراحة الظهيرة”، لقد كان استراحة العائلة العراقية من عذابها اليومي، ومع بروز محاولات كوميدية في السينما العراقية ظهرت أمل من جديد بطلة لأكثر من فيلم، أبرزها فيلم “عمارة 13″، الذي أنتج العام 1987، وهو من سيناريو عبدالباري العبودي وإخراج الراحل صاحب حداد.
في هذه الفترة اشتركت في عدد من الأعمال الدرامية التلفزيونية، ولكن القنبلة التالية لقنبلة تمثيلية “سينما” كانت في مسرحية “الخيط والعصفور” مع الفنان الراحل خليل الرفاعي.
المسرحية قدمت في العام 1984 على خشبة “مسرح المنصور” في ساحة الاحتفالات، وهي من تأليف وإخراج الفنان مقداد مسلم، وإنتاج فرقة “مسرح بغداد للتمثيل”، أما أبرز الممثلين فيها، بعد نجميها الرفاعي وطه، فكانوا؛ محمد حسين عبدالرحيم، زاهر الفهد، أفراح عباس، عزيز كريم، كاظم فارس، قحطان زغير، حسين علي هارف، ستار خضير ومحمد صكر.
تكمن أهمية هذه المسرحية، بالنسبة إلى نقاد المسرح، من كونها مثلت الشرارة لانطلاق المسرح التجاري، على أن ذلك لا يمنع من القول إنها كانت مسرحية شعبية جماهيرية متقنة الصنع .
واعتمد النص في “الخيط والعصفور” على المثل الشعبي العراقي، لقد تحرى المؤلف، ودوّن المئات من الأمثال الشعبية العراقية ووضعها في سياق درامي كوميدي ناجح .
مشاهد المسرحية، والتي تحكي قصص أمثال مختلفة، أصبحت مادة دسمة للتلفزيون العراقي في الثمانينات والتسعينات، فلكل مشهد أبطال كوميديون، ولكل مشهد عقدة وحل، ولكل مشهد، أخيرا كوميدياه.
لقد عادت أمل طه إلى المسرح قوية، فصارت بدءا من هذا التاريخ قاسما مشتركا في المسرحيات الكوميدية التي غزت بغداد، بل وطافت غير مدينة عراقية، وخصوصا في التسعينات .
على أن الملاحظ، وهو لا يخص أمل لوحدها، وإنما ظاهرة المسرح الكوميدي العراقي برمته، أن الخط البياني، الفكري والجمالي، للعروض الكوميدية قد بدأ بالانحدار عاما بعد عام، حتى أصبح بالإمكان الترحم على “بذاءات” قدمت في التسعينات، مثلا، إذا ما قورنت ببذاءات ما بعدها، لماذا يحصل ذلك؟ ستجد الجواب في سيرة أمل طه نفسها .
كانت تحلم بأن تصرع مرضها، أن تنتصر عليه، كانت تريد العودة إلى أمل التي اقتحمت أسوار العاصمة في السبعينات، ونافست نجومها، بل وتفوّقت على الكثيرين منهم
تراجيديا الموت
من المعروف أن ظروف العراق السياسية في النصف قرن الماضي قد ألقت بظلالها الكئيبة على كل مفاصل الحياة، ومن المؤسف أن قطاع الفنون الجميلة، والمرئية، قد تأثر بشكل حاسم بتلك الظروف، ليصل الأمر اليوم إلى اعتباره “من المحرّمات”، ويصبح، بالتالي، من يشتغل في هذا القطاع فائضا عن حاجة المجتمع، وفي أفضل التقديرات مجرد هامش فيه!
وبسبب هذا الوصف المعتم اضطرّ فنانون كثيرون إلى القبول بأرخص العروض، آخرون فضلوا الصمت والانسحاب، وجماعة ثالثة هاجرت، هذه السيرة لا تجد لها مثيلا في أيّ من دول الجوار، على سبيل المثال، وبالتالي فإن الفنان في تلك الدول لا يضطر إلى التنازل عن فنّه وما يؤمن به من أجل “العيشة”!
في محنتها المرضيّة، قمت بزيارتها مرّتين، وفي المرّتين كنت برفقة الصديق الفنان جلال كامل، لا أفشي سرا، هنا، عندما أقول إن كامل، وزوجته الفنانة سناء عبدالرحمن، من أقرب أصدقاء أمل .
الزيارة الأولى كانت في مستشفى مدينة الطب ببغداد حوالي العام 2011، لقد خصص الأطباء، وفاء للممثلة المحبوبة، جزءا من مكاتبهم لكي تحظى بعنايتهم، أما الزيارة الثانية فكانت في عمّان، حوالي العام 2013، وكانت وصلت لتجري فحوصات جديدة لحالتها.
في المرّتين كانت تحلم بأن تصرع مرضها، أن تنتصر عليه، كانت تريد العودة إلى أمل التي اقتحمت أسوار العاصمة في السبعينات، ونافست نجومها، بل وتفوّقت على الكثيرين منهم، كانت تشعر أن زمن الأحلام قد انتهى إلى غير رجعة، وكنّا، أنا وجلال وسناء، أو أغلب من زارها كما أتابع، نحاول أن نشجّعها على ترميم أحلامها.
عندما تقف أمام إنسان يصارع آلامه الشخصية، وهو يعرف أن ثمّة الملايين من العيون ترنو إليه، فإن هذا الإنسان مقبل على مصيره بانفعال تراجيدي. يا للكوميديا، وحيدة تموت ممثلة الكوميديا الوحيدة، في مشهد تراجيدي أخير!
عبدالخالق كيطان