أشتهرت إيران منذ القدم بشعرائها الذين أنتشرت أشعارهم وقصائدهم الرائعة في كل الأنحاء .. فكانت مدرسة الشعر القديم والمعاصر حيث أمتلأت هذه الأرض الرائعة بأروع القصائد وعرفت لغة الشعر منذ الميلاد الأول لها ...
حيث الشعراء: "حافظ الشيرازي" .. ذاك الذي تعلق أسمه بإيران وتنقل في ديوانه بين حقول الغزل والحب والجمال، الوصف والعرفان ... سعدي الشيرازي: الشاعر الذي زرع من قصائده بستاناً رائعاً من الورد يملأ عبيره الأفق، ثم نجد بحور الحكمة تفيض من ديوان الشاعر الحكيم "عمر الخيام"، الشاعر والعالم الفلكي الذي أشتهر برباعياته المعروفة، "الفردوسي" الشاعر الذي صور الحياة في لوحة ملحمية مستحيلة التكرار.
"خاجوي كرماني"، "العطار النيشابوري"، "جلال الدين المولوي" .. شعراء وشعراء لن تغيب أسماؤهم عن ذاكرة إيران حيث خلدتهم في دواوين طبعت بأروع الطبعات، ومراقدهم ضمتهم بأروع ما تملكه إيران من مواهب فنية معمارية وأجمل ما لديها من طبيعة وورود.
يُنظر إلى الشاعر الكبير (أبو القاسم الفردوسي) الذي عاش خلال الفترة (329-411، أو 416 هجرية) كأبرز شعراء الفارسية في نظم الملاحم الشعرية الحماسية.. بل أنه يُعتبر من ألمع شعراء الملاحم البطولية والأساطير التراثية والتاريخية على المستوى العالمي.
تميّز الفردوسي بنبوغ وكفاءة وموهبة سمّاها الكثيرون بأنها موهبة إلهية ونسج الخيال الشعري.. بل ويُشار إليه كآية كبرى في فنه، وسيبقى اسمه لامعاً متألقاً في تاريخ الأدب والثقافة في إيران.
حيث أن ملحمته الشعرية (الشاهنامة)، التي لا نظير لها في التاريخ، تتضمن القصص والأساطير الوطنية وتسجيلاً للأحداث التاريخية التي عصفت بإيران منذ بداية الحضارة الإيرانية القديمة، وحتى اضمحلال السلالة الساسانية.
إن ملحمة الفردوسي الشعرية (الشاهنامة)، والتي جاءت على شكل شعرٍ عمودي، ومقفّى بموسيقية مُرهفة، تضم كما هو معروف روائع الأبيات الشعرية التي تسجّل الملاحم التاريخية والأدبية العريقة والتقاليد والسنن والعقائد الإيرانية القديمة، أي أنها تتضمن الثقافة القديمة والخالدة للشعب الإيراني خلال قرون سحيقة وعهود طويلة.. وكذلك فهي تتضمن العديد من الموضوعات والجوانب الأخلاقية والدينية والاجتماعية المليئة بالعبر والدروس التربوية لبني الإنسان: وهذا مما يُضاعف من قيمتها المعنوية ويجعلها مورد رضا الناس، ويمكننا اعتبار أقسام لا بأس بها من الملحمة مشبعة بالدروس والحكم الأخلاقية المربية والمفيدة لتهذيب الأخلاق وتنقية الأذهان وتوعية العقول ويقظة الأفكار، ولا سيما بالنسبة للشباب الذين يجهلون أحداث التاريخ ووقائع الدهر والأيام.
تتميز الموضوعات الأخلاقية الموجودة في (الشاهنامة) بأنها على نوعين:
النوع الأول: تشمل المواعظ والحكم العديدة التي يوردها الفردوسي في بداية ونهاية كل مقطوعة شعرية تسجّل الحوادث والوقائع التي تؤول إلى هزيمة السلاطين والفرسان وانقراضهم: وهو بذلك يطبق ما تمليه عليه ميوله الفطرية والباطنية، ويهدف من ذلك إلى الدعوة إلى الاتعاظ والاعتبار والنصيحة.
النوع الثاني: تشمل المواعظ والحكم والوصايا والنصائح التي يوردها الفردوسي في أشعاره بلسان السلاطين والوزراء والفرسان أبطال الملحمة: مثل مواعظ وإرشادات الأردشير إلى شاهبور، ومواعظ هرمز إلى نجله بهرام، والحديث المشبع بالحكم الذي تبودل بين بوزرجمهر وأنوشيروان، فضلاً عن مواعظ بوزرجمهر نفسه وغيرها.. وهي تعبّر عما يكنّه الفردوسي في قلبه وأحاسيسه، رغم أنه ينسبها لأبطال ملحمته.
وهكذا فإن الشاعر الفردوسي، عندما يؤكد على مثل هذه الحكم والمواعظ بنوعيها في ملاحمه الشعرية، فإنه يثبت في الواقع تعلّقه القلبي بالمبادئ والأسس الأخلاقية.. وهي تذكّرنا بما قاله الفيلسوف الألماني الشهير (عمانوئيل كانط المتوفي عام 1804م): أن هناك شيئين يأخذان بالروح إلى درجة الإعجاب، وكلما يفكّر المرء بهما ويتأمل أكثر فإن إعجابه واحترامه لهما يزداد تبعاً لذلك، الأول: في السماء المليئة بالنجوم التي نراها فوق رؤوسنا ليلاً، والثاني: القانون الأخلاقي الكامن في قلوبنا.
أجل، إن هذا القانون الأخلاقي كان مترسخاً في قلب الفردوسي وممتزجاً مع روحه وفكره إلى حدٍ بحيث نراه جلياً وواضحاً في أغلب أشعار الشاهنامة.
قبل الغوص في أعماق هذا الموضوع المهم (الأخلاق الإسلامي في ملحمة الفردوسي الشعرية) لابد أن نلفت الأنظار إلى ملاحظة وهي: أن المواعظ والحكم الواردة في فصول (الشاهنامة)، والتي يعتبرها أرباب البصيرة منبعثة من عقل ومعرفة قائلها، قد تطغى أحياناً على الموضوع الرئيسي للأشعار بحيث يؤدي ذلك بالقارئ أو المستمع إلى الشك في الهدف الأصلي للشاعر، هل هو التأكيد على المبادئ الأخلاقية، أم تسجيل الحوادث التاريخية والأساطير القديمة؟!.
بالتأكيد فإن استشهاد الفردوسي المتكرر في أشعاره بمثل هذه المفاهيم الأخلاقية والإنسانية السامية قد أكسب (الشاهنامة) امتيازاً فريداً، قلما نجد مثيله في الملاحم الشعرية لشعراء آخرين، وهي بحد ذاتها: "... فن معرفة العالم"، الذي يقول عنه تولستوي: "بأنه ذو ملاك ثابت ومعتبر، وأن هذا الملاك المتمثل بالمعرفة الدينية والروحانية هو الذي يملي الأفكار والعقائد.. وهو من النقاط المشتركة بين كافة أمم الدنيا في جميع الأعصار والأزمان".
إن هذه المعرفة الدينية والروحانية تعتبر في الواقع أساس المكارم الأخلاقية وقاعدتها.. ومن الشخصيات التاريخية التي تميزت بمثل هذه الفضائل السامية والأخلاق العالية في القرون المنصرمة والقرن الحالي نذكر: كانط وتولستوي وعدد من علماء التعليم والتربية في أوروبا وأمريكا مثل: الدكتور كارل، وأناتول فرانس، واشبينجر، وكيزلينك وجان ديوي.
بالطبع فإن مثل هذه الإشارات إلى الفضائل والمكارم الأخلاقية والتأكيد عليها، نراها جلية في الأحاديث والروايات المنقولة عن رسول الإسلام الأكرم محمد (صلى الله عليه وسلم)، وكذلك في الآيات القرآنية المباركة.. كما جاء في الحديث الشريف الذي نقله مالك في (الموطأ): "إنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق".. وكذلك في الآية الشريفة: "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة" (سورة الجمعة/3).
كما توضحه الآية الكريمة، فإن القرآن الكريم يؤكد على تزكية النفوس قبل التعليم.. حيث أن الهدف الأساسي من بعثة الأنبياء والرسل لا سيما نبي الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، هو تتميم مكارم الأخلاق وتهذيب النفوس الإنسانية.
ولأن الشاعر الفردوسي كان من الأتباع الحقيقيين للنبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) ومن المؤمنين بالإسلام والعارفين بالقرآن والأحاديث الشريفة وبمبادئ الأخلاق الإسلامية، التي يقول عنها علماء الأخلاق أنها ذات منشأ عقلاني، وتستند إلى الإيمان بالمبدأ والمعاد، لذا فإنّه اتخذ من الأخلاق الإسلامية والمكارم والفضائل الأخلاقية منطلقاً لعمله، ومطلعاً لأكثر مقطوعاته الشعرية، كما يبدو ذلك في هذه الأبيات الرائعة التي افتتح بها ملحمته الشعرية (الشاهنامة):
[باسم الله خالق الحياة والعقل، الله الذي يرزق ويهدي، الله رب الكون، والنور الأزلي، وأعلى من التصور في الخيال، ولابد للإنسان أن يعبد الله لأنّه أهل للعبادة].
وفي مكانٍ آخر من الملحمة، وفي إثباته للتوحيد وعبادة الواحد الأحد، ورفضه لاحتجاجات الماديين من أدعياء الحكمة والفلسفة، وبأسلوب بسيط وجريء نراه يقول:
[أيها المتفلسف الثرثار، لن أسلك طريقك الذي توصيني به، لأنه لا عقيدة أفضل من التوحيد، حيث أن الله واحد شئت أم أبيت، إنك تقبل الشيء الذي تراه، وأعلم أن الله هو غير الذي تفكر به أنت، حيث الله الأحد، وأن عقيدة التوحيد هي الأصالة دون غيرها].
يبدو أن الفردوسي كان قد اقتبس تلك المعاني في وصف هذه الزمرة من الناس من القرآن الكريم، حيث جاء في الآية السابعة من سورة الروم: "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون".
الشاعر الفردوسي في مطلع ملحمته (الشاهنامة) وبعد حمده لله جلّ وعلا، هكذا يقول أن مكانة العقل:
[لابد أن يراقب العقل أعمال الملوك والسلاطين، حيث أن العقل زينة الأبرار، اعلم أيها الإنسان أن العقل يعني الخلود في الحياة والعقل هو أصل الحياة، حيث أن منزلة الإنسان في الدارين ترتبط بالعقل فاتخذ من العقل مرشداً في طريقك، لأنه يصونك من الضلال].
بعد ذلك يؤكد الفردوسي على لزوم الانتهاج بنهج النبي (صلى الله عليه وسلم) ووصية علي (ع) كما يبدو ذلك في هذه الأبيات:
[أو أردت أن ننجو من أي انحراف ولا تقع في البلايا، فاتخذ من كلام الرسول دليلاً لك في الحياة، ولو أردت السعادة في الآخرة فتمسّك بالنبي ووصية المرتضى].
وبهذا المعنى قال الفردوسي، وهو يهجو السلطان محمود الغزنوي:
[أساؤوا القول بشأني، لأني أحب النبي وعلي ولهما مكانة كبيرة في قلبي، وليعلموا أن حبي للنبي وعلي أكثر بمائة مرة من حبي لمحمود].
وفي مكانٍ آخر من الملحمة يؤكد الفردوسي على إيمانه بما جاء في القرآن الكريم حول تكريم الإنسان كخليفة لله في الأرض، كما جاء في الآية المباركة: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...". (سورة البقرة/29).
والآية الأخرى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً". (سورة الإسراء/73).
حيث أن الشاعر الفردوسي جمع هذه المضامين الرائعة في بيتين مليئين بالحكمة والموعظة، وهو يخاطب الإنسان بالقول:
[أنت أيها الإنسان خليط من المادة والروح، وقد سخرت كل إمكانات الدنيا من أجلك، فلا تحط من قيمتك، واعرف قدر نفسك].
ومن هذه النظرة الحكيمة يدعو الشاعر الفردوسي الإنسان إلى تزكية نفسه، ويحثه على التعلم والتفكير، ويحذره من ادعاء الكمال الذي يعتبره سبباً للخسران، حيث يقول:
[لا تترك التعلم أبداً حتى للحظة، متى ما ظننت أنك أمسيت عالماً وتعرف كل شيء فهذا هو الجهل بعينه، اعلم أنك لو تركت التعليم والتعلم، ولم تصغ لكلام العلماء والحكماء فإنك أجهل بني الإنسان].
وقد اقتبس الشاعر الفردوسي هذه المعاني مما ورد مراراً في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة فيما يخص الحث على التعلم... وللاختصار فإننا نكتفي بالآية 13 من سورة (الزمر).
(... قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب).
والحديث النبوي الشريف: "اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم، وأن الملائكة تصنع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب".
ومن الأمراض الخطيرة التي تصيب طالب العلم الغرور والعجب، فإن أصيب طالب العلم بمثل هذه الآفة فسينطبق عليه حديث الإمام أمير المؤمنين (ع): (إعجاب الرجل بنفسه برهان نفسه وعنوان ضعف عقله).
ولأن الفردوسي كان ينظر للإنسان كمظهر للكمال والجمال المطلق من الناحية المعنوية ومرآة لانعكاس الأنوار الإلهية ولكي لا يتأخر عن نيل السعادة الأبدية، فإن الشاعر يحثّه على كسب العلم والمعرفة ويحذّره دوماً من الصفات السيئة مثل:
حب الهوى، والحرص، والطمع، والكذب، والنفاق، والكسل، والأسوأ من ذلك الظلم.
وعن طريق أشعاره المليئة بالحكم والمواعظ، كان شاعرنا يدعو الإنسان إلى الخوف من العقاب الإلهي وإلى الصبر والعمل الصالح والحسن والاعتدال في الحياة ومجالسة العلماء والعارفين، والابتعاد عن الجهلة، وأخذ العبر والدروس من وقائع الحياة، فضلاًَ عن الكثير من الصفات الإنسانية الأصيلة.وهكذا فإن ملحمة (الشاهنامة)، فضلاً عن احتوائها على الأشعار الحماسية والقتالية وسرد الملاحم البطولية والأسطورية وتسجيلها للوقائع التاريخية، فإنها كما قلنا آنفاً تعتبر خزاناً نفيساً من الدرر والمجوهرات الثمينة والحكم والمواعظ المشبعة بالأخلاق والخصال الحسنة.. وسنشير أدناه إلى نماذج من الأبيات الشعرية التي جاءت في الشاهنامة بشأن الخصال الأخلاقية التي ذكرناها آنفاً وهي كالآتي:
[لو تغلّب الهوى عليك، فإن العقلاء لن يعاملوك كإنسان، ولا يُمكن لأي أحد أن يفر من وساوس الأهواء.. ومن يتغلّب على هواه فهو كالأسد المغوار].
وكما يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم): [أشجع الناس من غلب هواه]، ويقول أمير المؤمنين علي (ع): (لا يجتمع العقل والهوى).
وقبل كل هذا، جاء في القرآن الكريم: "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله" (سورة القصص/151).
"... ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" (سورة ص/26).
"وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" (سورة النازعات/41 و42).
وعن التقتير والطمع يقول الفردوسي:
[لا يحترم أي شخص في الدنيا المقتّر والطماع، ما دمت تعرف أن الدنيا غير باقية، إذن لم تعذب بدنك وروحك بالطمع والحرص عليها، اكتف بما عندك ولا تحاول الاستزادة منها، لأن التقتير والطمع يقضيان على سمعة الإنسان].
ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم): (يهرم ابن آدم ويشب منه اثنان: الحرص على المال والحرص على العمر) كما جاء الحديث نفسه بصورة أخرى: (يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل).
ويقول الإمام علي (ع): (الحرص لا يزيد في الرزق ولكن يذل القدر).
وفي الكذب والنفاق:
يقول الشاعر الفردوسي:
[الكلام المعسول والمزين والنفاق والكذب لا شأن له أمام أنظار العقلاء، ومن يتخلّ عن عمل الخير فإنه سينحرف ويضل على السواء. الكذب يسوّد وجه الإنسان ويحول دون سموه].
وبهذا الشأن يقول الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم): (أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان).
ويقول الإمام علي (ع) أيضاً: (إياك والنفاق فإن ذا الوجهين لا يكون وجيهاً عند الله)، (أقبح الخلائق الكذب).
وفي بيتٍ شعري رائع آخر يقول الفردوسي:
جو كاهل بود مرد برنابكار
أزوسير كردد دل روزكار..
وهو يعني:
[لو تقاعس الإنسان في عمله، فإن الدنيا ستملّ من وجوده].
وفي الكسل يقول الشاعر الفردوسي:
[تخلّ عن الكسل، واسع وابذل جهدك حتى تقطف ثمار عملك. ففي هذه الدنيا لا ثمار بلا تعب، فالكنز يكمن في السعي وبذل الجهد، وبدونه لا ينال الإنسان ذلك الكنز].
الآيتان المباركتان 41 و42 من سورة النجم تتضمنان المعنى ذاته: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى".
كما ورد عن الرسول القائد (صلى الله عليه وسلم): (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل...).
وفي موضوع الظلم والجور
يقول الشاعر الفردوسي عن لسان أنوشيروان:
[هكذا قال أنو شيروان، لو أن الملك ظلم الناس وهجر العدل فإنه سيخسر في الدنيا، فإن الظلم يعني بداية زوال الجبابرة والملوك].
وقد أشارت الآيات المباركة إلى الظلم في مواضيع كثيرة:
"إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً وكان ذلك على الله يسيراً" (سورة النساء/167-168).
كما جاء في الحديث النبوي الشريف: (الظلم ظلمات يوم القيامة).
وروي عن الإمام علي (ع): (لا تظلم كما لا تحب أن تُظلم).
ويقول الإمام علي بن الحسين (ع) في وصية لابنه محمد الباقر (ع): (إياك والظلم لمن لا ناصر له عليك إلا الله).
وفي موضوع عدم إلحاق الأذى بالغير
يقول الفردوسي في هذا الشأن:
[لا تؤذي النملة التي تحمل حباتها، لأنه حية وتحب حياتها. من يؤذي نملة، فإنه أسود القلب، وشديد القسوة، الكبار والصغار يعتقدون أن الدنيا لا تستحق أن تؤذي الآخرين فيها].
ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم): (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وعن الجزاء والثواب يقول الشاعر الفردوسي:
[لو قمت بعملٍ سيء في الدنيا، فإن حسابك يكون في الآخرة، وستجني هناك ثمار ما زرعته في الدنيا.
تذكّر الله واخش منه حتى ما عزمت على عمل السوء أو حدّثت نفسك بذلك.
إن أحسنت فإنك ستلقى الثواب.
وإن أسأت فإنّك ستلقى العقاب].
وقد جاء في القرآن الكريم: "يومئذً يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره" (سورة الزلزلة/7-9).
وفي التذكير على أهمية العدل يقول الفردوسي:
[لو كنتَ عادلاً أيها الباحث عن الشهرة، ستحقق ما تصبو إليه من آمال، التزم العدالة في العمل سواء خيراً أم شراً].
وقد جاء في الآية 12 من سورة المائدة: "ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون".
كما يقول الإمام علي (ع): (أنصف الناس من نفسك وأهلك وخاصتك، ومن لك فيه هوى، واعدل في العدو والصديق).
وعن موضوع البر والإحسان يقول الفردوسي:
[ما دمت حياً، فإن عليك أن تعمل الخير، حتى تفوز في الآخرة، اعمل الخير في الدنيا لأن عقاب الأعمال السيئة تلقاه سريعاً في الدنيا، الخير والإحسان هما اللذان يبقيان في الدنيا].
وقد جاء في القرآن الكريم إشارات عديدة إلى عمل الخير والبر والإحسان منها الآية 90 من سورة النحل: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى".. وكذلك في الآية الثامنة من سورة الإسراء: "إن أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها...".
يقول الإمام علي (ع): (لا فضيلة أجلّ من الإحسان).
وفي مسألة الحلم والصبر يقول:
[الصابرون لا يغضبون أبداً، ويبتعدون عن الأعمال المحطمة، ويحذرون من الوقوع في التهلكة.. لكن الصبر لو زاد عن حده فإنّه سيؤدي إلى الكسل والضعف].
وكما يلاحظ فإن الشاعر الفردوسي لا يقبل بالحلم والصبر الذي يزيد عن حده، ويُضمر فيه الضعف والانحلال.
وهناك حديثٌ نبوي شريف بهذا المعنى: (خير الأمور أوسطها).
وكذلك: (أوتيتُ جوامع الكلم).. وهذا الحديث يتميّز بالعمومية والإطلاق، وهو يدل على الاعتدال في جميع الصفات الإنسانية.
وكذلك يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (اللهم أغنني بالعلم وزيّني بالحلم)، (الحلم سيد في الدنيا وسيد في الآخرة).
كما يقول أمير المؤمنين علي (ع): (الحلم يُطفئ نار الغضب).
وفي مجال الاعتدال في الإنفاق يقول الشاعر الفردوسي:
[لا تسرف في إنفاق الأموال عبثاً أو للتظاهر: إذا التزمت الاعتدال في الإنفاق فإنّك ستستمر في حياتك سعيداً، والعقلاء يؤيدون مثل هذا العمل].
كما قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم): (الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة).
والآية المباركة 22 من سورة الإسراء فيها تعليمات خالدة إلى كافة بني البشر للالتزام بالاعتدال في الإنفاق على مر العصور والأزمان: "ولا تجعل يدك مغلولةً على عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً".
وأما عندما ينصح بالابتعاد عن الجاهلين ومجالسة العقلاء يقول الفردوسي:
[إن جالست الجاهل فيسبب لك المتاعب، وعليك أن تحذر من مجالسة الجاهلين، فإن الصخور تئن من الجهلة، لأن الجاهل لا يُعير أهمية لعاقبة أعماله، ولا يفرّق بين العز والذل].
حيث أن الجاهل يغفل العز والذل ويجهل الفضائل، وكما يقول الإمام علي (ع): (الجهل بالفضائل من أقبح الرذائل)، وهو سلام الله عليه حذّر الإنسان مراراً من مجالسة الجاهل: (احذر مجالسة الجاهل كما تأمن مصاحبة العاقل).. ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم): (إياك ومصاحبة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرك).
وحول لزوم مجالسة العقلاء يقول الشاعر الفردوسي:
[التزم مجالسة العقلاء، لأن الجاهل لا إيمان له.. حيث أن العدو العاقل أفضل من الصديق الجاهل].
كما ينصح بالاتعاظ وأخذ العبرة، فيقول:
[لو فصحتِ الأرض عن أسرارها ومكامنها، فإنها ستخرج من جوفها السلاطين ودماء الفرسان والعلماء وذوي الوجوه المنعّمة.. إذن مهما يكن فإن العاقبة هي الموت].
ويقول في مكانٍ آخر:
[أين التيجان والملوك، أين الأبطال والفرسان، أين العلماء والحكماء، أين المتكبّرين والشجعان؟ لقد ماتوا جميعاً وتوسّدوا التراب، لم يفز بها سوى المحسنين.. نحن من التراب، ولابد أن نعود إلى التراب.. فالعالم مليءٌ بالحكم والعبر، لماذا إذن نغط في الغفلة؟].
وقد جاء في القرآن الكريم بهذا الشأن: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" (سورة الحشر/3).
وقوله تعالى: "أينما تكونوا يُدرككم الموت ولو كُنتم في بروجٍ مشيدة" (سورة النساء/ 81).
وقوله تعالى: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل..." (سورة الروم/ 42).
وهناك قولٌ مأثور عن الإمام علي (ع): (ما أكثر العبر وأقل الاعتبار).
والفردوسي في مكانٍ آخر من الملحمة يذكر بيتاً رائعاً مليئاً بالعبر والدروس:
[ما دام الكون لا ولن يبقى إلى الأبد، فلا تزرع سوى بذور الخير في هذه الدنيا].
يبدو أننا أسهبنا في الحديث نوعاً ما، لأننا لو أردنا الإشارة إلى جميع المواعظ والحكم والأبيات الشعرية الأخلاقية والمشبعة بالعبر والدروس التي نظمها حكيم طوس، والتي يتجاوز عددها مئات الأبيات وعلّقنا عليها بالأسلوب الذي اتبعناه آنفاً، فإننا سنكون بحاجة إلى صفحات أكثر من صفحات (الشاهنامة) نفسها!!.
ولكن وتطبيقاً لقاعدة: ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه.. فقد اكتفينا بهذه المعاني السامية، وبدورنا ندعو المحققين والأدباء إلى مطالعة (الشاهنامة)، أو ملخّصها الذي أُعدّ قبل سنوات والغور في أعماقها.. وحقاً إن من لا يقرأ (الشاهنامة) بدقة لا يُمكنه أن يُقدّر عظمة ومكانة الشاعر الكبير الفردوسي في الأدب الفارسي، بالأخص الجانب الأخلاقي في الملحمة التي أشرنا إليه آنفاً.
وهنالك ثلاث ملاحظات نُدرجها كالآتي:
الملاحظة الأولى:
أن الفردوسي عندما يريد أن يذكر النساء أو يُشير إليهنّ في أشعاره فإنّه يُعبّر عنهنّ بشكلٍ مناسب ومحترم جداً، مستلهماً ذلك من غيرته ورجولته ومن القيم والتعاليم الإسلامية الأصيلة التي يؤمن بها، والتي نعلمها من الآيات القرآنية العديدة الواردة في هذا المجال، مثل هذه الآية المباركة: "وإذا سألتموهنّ متاعاً فاسئلوهنّ من وراء حجاب" (سورة الأحزاب/54).
ويتضح ذلك في العديد من الأبيات الشعرية، ومنها هذين البيتين التي يصف فيها إحدى شخصيات قصص الملحمة وتدعى (منيزة)، حيث يقول:
[دخلت إلى المحفل وهي محجّبة، تغطّي شعرها ووجهها].
ويقول بلسان حالها:
[أنا منيزة بنت أفراسياب، حتى الشمس لم ترني بغير حجاب].
الملاحظة الثانية:
أن الفردوسي مع ما كان يُكنّه للمرأة من احترام وتكريم ويصفها بالالتزام والحجاب ويدعوها إلى ذلك، إلا أنّه كغيره من البشر كان مُحباً للمرأة وداعياً إلى لزوم الاقتران الشرعي بها والتمتّع بلذائذ الحياة وطيباتها، وهو بذلك يُجسّد معاني الآيتين المباركتين:
"... كلوا من طيبات ما رزقناكم..." (سورة البقرة/55).
"قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" (سورة الأعراف/31).
وكذلك الحديث النبوي الشريف: (خيركم من لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلا على الناس).. حيث يقول الشاعر الفردوسي:
[مهما تملك من منصب اجتماعي في الحياة، وسواء كنت سلطاناً أو عبداً.. فلا خيار أمامك سوى الزواج، وتناول الطعام والتزام النوم وارتداء الملابس
لو اخترت زوجة مؤمنة وجميلة، فهل تعرف مثيلاً لها في العالم؟...].
وفي بيتٍ آخر يُضمّنه ما جاء في الحديث الشريف: (من تزوّج فقد استكمل نصف الإيمان، فليتّق الله في النصف الباقي)، يقول:
[من يعزم على الزواج، فإنّه في الواقع يُريد العمل بدينه وإكمال إيمانه].
ويدعو في مكانٍ آخر إلى عدم حمل هموم الدنيا وغمومها، حيث يقول:
[انظر كيف خلق الله الدنيا جميلة وكاملة، وعطاء الله ليس محدوداً أو ناقصاً.. إذن اخرج إلى الدنيا ولا تحمل الغم.. لا تطلب من الله سوى الخير والبر، ولا تحزن ولا تكن مغموماً من أجل الدنيا.. إذن كل واشرب والبس، لأن ثمار غيرها في هذه الدنيا].
والملاحظة الثالثة:
أن الفردوسي في عنفوان شبابه لم يكن بحاجة إلى أي أحد، وكان مكتفياً ذاتياً.. إلا أنّه أنفق كل ما كان يملك من مال في نظم ملحمته الرائعة (الشاهنامة)، ونتيجة لوشاية الحساد والمغرضين، فقد أساء له السلطان محمود الغزنوي، مما أدى به آخر أيامه إلى أن يعاني من العوز والفقر المادي الشديد، وقد أشار إلى ذلك مراراً في أبيات شعرية، نظمها بهذا الشأن، وفيها يشكو من الدهر وتقلّب الأيام ونوائب الزمان التي لا ترحم أبداً.. إلا أنه رغم ما عاناه وتحمّله من صعاب، فقد كان يُسلّم أمره إلى الله، مستلهماً معاني التوكّل على الله والتسليم له من الآية المباركة: "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون..." (سورة يس/ 82).
وبهذا الشأن نورد الأبيات الآتية المتضمنة للمعاني الآنفة الذكر:
[يا دنيا.. لم كنت سعيداً في حياتي حينما كنت شاباً، وخارت قواي في كهولتي..
أجابته الدنيا، لم تنسب الجيد والسيء لي، وهذا بعيد عن عقلك وحكمتك.. لابد أن تأخذ معالم الطريق من خالق الكون والشمس والقمر والليل والنهار.. لأن الله إن أراد شيئاً فإنّه يقول له كن فيكون
ولو اعتقد الإنسان بغير ذلك، فإنّه يفكّر عبثاً، فاستعن بالله وتوسّل به، ولا تطالب أدنى شيء من سواه].
وهكذا نرى أن هذا الإنسان المؤمن بالله وبمشيئته، والمتوكل عليه والمستعين به، قد اقتدى في حياته بمولاه علي بن أبي طالب (ع) الذي يقول في (دعاء كميل): (اللهم اجعلني بقسمك راضياً قانعاً، وفي جميع الأحوال متواضعاً). ونختم جولتنا بهذه الأبيات الشعرية الرائعة المليئة بالحكم والمواعظ والعبر التي اقتبسناها من ملحمة الفردوسي الشعرية (الشاهنامة).. وهي لما تحويه من معاني ومضامين معنوية وإيمانية أصيلة، تعتبر بحق من مفاخر الشعب الإيراني، وكل الناطقين بالفارسية.
[تعال لكي لا نودّع الدنيا بالسيئات من الأعمال، ولنسع معاً لتأدية الأعمال الصالحة، لأن العمل الصالح والسيئ لا يدومان، إذن لنترك من بعدنا الصالح من الأعمال، فالكنوز والقصور لا نجني منها أي ربح، إذن فلابد أن تعمل صالحاً ولا تؤذي أحداً وهذا هو طريق الفلاح الأوحد..].
(*) ملحمة الملوك، أطلق عليها ابن الأثير (قرآن فارس)، كُتبت من قبل أبو القاسم منصور الفردوسي (1000 ميلادي).