لعل أول إتصال بين العرب وجيرانهم الأتراك، قد تم في عام 54 هجري، في عصر معاوية بن أبي سفيان، عندما عبر والي خراسان "عبيد الله بن زياد" نهر جيحون الى بلاد الأتراك، وأرسل ألفي فتى من فتيان الأتراك الى العراق لينضموا للجيش العربي . وبعد ذلك أخذ الأتراك ينضمون الى الإسلام جماعت و وحدان. وأخذ النفوذ التركي يزداد بإطراد، إن كان ذلك في الجيوش العربية الإسلامية أو في بلاطات الحكم، الذي بلغ أوجه في عصر المعتصم ("833-842م"، العصر العباسي)، الذي إنحدر من أم تركية، ومنذ عصر الخليفة المعتصم بدأ الحرس التركي يحمي الخلافة. ومنذ إغتيال الخليفة المتوكل (647-861م)، لم يكف دور هؤلاء الضباط الأتراك من التضخم. وحسبما جاء في رواية "الطاهر بن جلون" : "وردة سوداء بلا عطر" إذ يقول : ( ربما لا تعرفون من هم هؤلاء الجبليون المنحدرون من جبال الأناضول، الذين يقاتلون للتسلية، ويغتصبون النساء، هؤلاء الثملون دوماً، والذين يصرخون بلغتهم غير المفهومة أمريكا، أمريكا. ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك ؟ لقد سيطروا على مملكة الله وراحوا يتقاسمونها. وخلال قرنين بالكاد سوف يعلنون أنفسهم خلفاء. وسرعان ما تعلم أن التركي هو القائد من مجرد مظهر جيشه. ففي مقدمة العسكر صفوف من الرجال بثياب بيض يحملون البيارق ويقرعون الطبول ) . وكان العديد من الخلفاء العباسيين قد تزوجوا من تركيات، كما إمتلأت قصورهم بجواري من بلاد الترك. إذا رجعنا إلى التاريخ .
وإذا إنطلقنا من الحقيقة التي تقول ان شدة قبضة الدولة العثمانية على المناطق التي استعمرتها كانت تتناسب عكسياً مع بعد هذه المناطق عن الاستانة فنستطيع أن نصل الى نتيجة تقول ان سوريا كانت من المناطق التي سيطر عليها الاتراك بشكل مباشر، نظراً لانها كانت متاخمة لحدود تركيا بالاضافة الى العامل الآخر الذي كان يميزها عن اليونان وبلغاريا وبلاد الصرب ان شعبها كان يجتمع مع الأتراك العثمانين بدين واحد إلا وهو الإسلام . فبعد معركة برج دابق، التي جرت بالقرب من حلب عام 1516م والتي أنتصر فيها الأتراك على المغولين بقيادة قانصوه الغوري، دخلت الجيوش العثمانية الاراضي السورية، وسرعان ما أستولت على جميع أطرافها .
وأذا علمنا أن الاتراك أنسحبوا من سوريا قبيل أنتهاء الحرب العالمية الاولى. أي في عام 1917م. فأننا نجد ان الشعب السوري رزح تحت أحتلال الاتراك وتعامل معهم قرابة الاربعة قرون، وهو زمن ليس بالقصير.
إن الباحث في علاقات الشعبين العربي والتركي، بشكل عام، والشعبين السوري والتركي بشكل خاص، منذ إتحدا تحت ظل الهلال العثماني، خلال القرون الوسطى، يوم كان للواعز الديني المقام الأول، وكان الشرق يعيش بعزلة عن الغرب، ويرزح تحت نيران التخلف وتقليدياً الى أبعد الحدود فإنه ( هذا الباحث ) يسلم بأن العرب لم يروا غضاضة في الخضوع لسلطان آل عثمان . بعد أن مزق يوم مرج دابق جيش السلطان، جيش قانصوه الغوري، وتقدم الى دمشق فالقدس فالقاهرة فاتحاً . فقد رحبوا به في كل بلد أيما ترحيب، الى درجة إعتراف أمير مكة بالسلطان المنتصر. الأمر الذي جعله يكتسب لقب حامي الحرمين الشريفين، وهكذا إمتد حبل الود بين أمتين، وحد بينهما الدين والإقليم والمصلحة، إمتدا أمداً طويلاً الى أن بدأت تظهر في تركيا نوازع عنصرية، وضعت مصالح العنصر التركي فوق مصالح الآخرين وفوق مصالح الإمبراطورية الإسلامية .
في هذه المرحلة أنطلقت سياسة الأتراك في تعاملها مع الشعب السوري من إستخدام الدين كوسيلة لتحقيق لمصالح الإستانة . فكان جميع سلاطين الدولة العثمانية يلقبون أنفسهم خلفاء الإسلام على أراضي الإمبراطورية العثمانية المتباعدة الأطراف. أما الطريقة التي أداروا فيها سوريا، فكانت تنطلق من إعتمادهم على زعماء القبائل والعشائر والأمراء المحليين ووجهاء العائلات الكبيرة المشهورة كوكلاء عنهم في جمع الضرائب وتطبيق سياسات الدولة العليا، حيث كانت سوريا مقسمة الى سناجق التي كانت تسمى بشاليك .
1- بشليك حلب: التي كانت سابقا صليبية، وإنطاكيا وشاطئ إسكندرون ومنه قرية سويدية عند نهايات العاصي .
2- بشليك طرابلس على طول الساحل من اللاذقية حتى حدود الإمارة اللبنانية .
3- بشليك دمشق وتدخل تحت إدارته كل المناطق الجنوبية الشرقية من العراق حتى السويس، أما فلسطين التي كانت في عداد ولاية دمشق، فقد كانت تؤلف سنجقاً مستقلاً تحت إدارة باشا، وكانت القدس منضوية تحت لواء باشا دمشق.
كان النظام الضريبي في سوريا متطابقاً مع المنطلقات السياسية، فالباشا كان تركياً في كل سنجق يلتزم بتقديم أتاوة معينة مفروضة. وكل سنجق كان ملزماً بدوره، بدفع كمية من الماء تتناسب مع إمكانياته أو مع مقدار تأثير الباشا على سكان هذا السنجق وحكامه المحليين .
وكان الأتراك في سوريا يعتمدون أيضاً على إستغلال الخلافات العشائرية والاقطاعية والعائلية في تثبيت هيمنتهم على سوريا، وفي قمع أي تمرد يحصل في هذه المنطقة أو تلك. وما كان يساعد الأتراك في ذلك، هو عدم ظهور زعماء وطنيين قادرين على لم الشمل الوطني في سوريا من أجل التخلص من الهيمنة العثمانية، وإن مثال فخرالدين المعني ( القرن السابع عشر) وظاهر العمر ( القرن الثامن العشر) أكبر دليل على ذلك . ومن هنا نستطيع أن نقول ان المد القومي العربي في سوريا لم يكن متبلوراً آن ذلك، بما فيه الكفاية لتحقيق هذا الهدف . فقد كانت السلطات التركية تستطيع على الدوام زرع الخلافات الداخلية، الأمر الذي كان ضمانة لها في السلطة الوحيدة في هذه الفوضى السياسية المسماة بالإمبراطورية العثمانية .
إما المرحلة التي كانت شبه إستثناء لذلك، جاءت في الأربعينات من القرن الثامن عشر، حينما تمرد محمد علي، باشا مصر على الإستانة. ففي تشرين الثاني "نوفمبر" 1833م، تحرك الجيش والأسطول المصريين بقيادة إبراهيم ( أكبر انجال محمد على باشا )، فظفر بإنتصارات باهرة، وأحتل يافا وحيفا وصور وصيدا وبيروت . ثم سقطت عكا، بعد حصار أستمر ستة أشهر، وأسر واليها، وبعد أخذ جناح من جيشه اندفع الى سوريا، مستولياً على القدس ودمشق وحمص وحلب وصولاً إلى نصيبين. وأحتل الجناح الثاني إثناء إندفاعه، طرابلس واللاذقية وأضنا وقيسرية وقونية وكوتاهيا وصولاً الى ماغنيسيا. كما تجدر الإشارة الى أنه أستولى على أقصى الساحل السوري الشمالي المتمثل بمنطقة إنطاكيا ومينائها أسنكدرون. وفي الأناضول التقى إبراهيم باشا في منطقة "جينة خان" بقوة كبيرة من الجيش العثماني، وأنتهت المعركة بإنتصاره على العثمانيين. وبعد أن أحتل قونية، وقع الصدر الأعظم العثماني في 28 تشرين الثاني"نوفمبر" 1832م أسيراً في أيدي البدو الذين الحقهم إبراهيم باشا بجيشه *.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة الى أن الشعب السوري أستقبل إبراهيم باشا قائد حملة محمد علي باشا، أستقبال الفاتحين فكان قبل أن يصل الى أيه مدينة يستقبله وفد من أعيانها طالبين منه تخليصهم من الإستبداد التركي. وتفيد المصادر التاريخية أن إبراهيم باشا أخذ يحكم سوريا بالعدل، وعمل على تحسين الزراعة فيها.
هذا ما كان ارهاصات إنحلال الإمبراطورية العثمانية والفترة التي سماها الباحثون ( بالمسألة الشرقية ) التي بدأت بإشداد الضغط على الدولة العثمانية فأصبحت جسماً هزيلاً قابلاً للتفسخ وبالتالي تم اقتسامها والسيطرة عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المصدر: مجلة الهلال المصرية، العدد (تشرين الثاني "نوفمبر" عام 1948م).