للنقد الأدبي أساليب متنوعة، لا أود الخوض في تعدادها.. وليس من المفيد أن أتحدث عنها، كوني لستُ ناقداًَ أساساً، ولكنني كثيراً ما يُصادفني أن أقرأ نصاً أُحبّه وينال منزلةً من قلبي، وقد يملأ مساحةً من خيالي، فأقوم أحياناً بتدوين بعض الملاحظات عنه بصرف النظر عن كل أساليب ومدارس النقد الأدبي.
هذه رحلةٌ مع آخر ديوان للشاعر الكبير يحيي السماوي "لماذا تأخرت دهراً؟"، وقد وصلني منه على بريدي، وهو مشكورٌ على هذه الهدية القيمة، التي جاءت من أقصى أقاصي الأرض من استراليا.. لقد كُنتُ قد قرأتُ أكثر القصائد المنشورة سابقاً، ولكنني اليوم أمام فاعلية تعبيرية مفتوحة ترسم خريطة للدهشة، وتُفرد أشرعتها للريح والخيال.
عندما يتم تناول شاعر مُبدع مثل يحيي السماوي بدراسات ونقودات لا تُحصى، فبالتأكيد سيصعب على قارئ مثلي متذوق لا أكثر وليس بناقد، أن يجد ما يُرضي القارئ، عندما يُعبّر عن إعجابه بهذا الشلال الشعوري المنساب كموسيقى طقوسية نادرة. عبر هذا الإحساس المُلغّم بدهشتي وخوفي على ألا أستطيع أن أُعبّر عنها، حاولتُ أن اختصر حديثي عن هذا الديوان على اللمحات السيميائية في نصوصه المكتنزة في الإشارات الدالة ذات الفصاحة البلاغية.
يدرس علم السيمولوجيا الإشارات الدالة، مهما كان نوعها وأصلها، في بنيتها وأصلها، وعلائقها مع المكان والزمان الذي يتحرك فيه الإنسان.. ويُمكن لي أن أعتبر النظام الكوني، بكل ما فيه من إشارات وعلامات ورموز، نظاماً ذا دلالة، ولهذا قال سبحانه وتعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق".. ولقد ارتأيتُ أن تكون هذه الدراسة البسيطة قائمة على إيجاد الصلات الدلالية الدقيقة التي يُتحفنا بها شاعرنا يحيي السماوي، ويدعونا بتدبّرها والتأمل فيها، وبين ما يُريدنا أن نُحسّ به وما نلمسه وبين التجريد.. والتي طوّرها الشاعر بشكلٍ واعي لتُعيننا على فهمها وتمثّلها روحياً وعقلياً باعتبارها من سُنن حياتنا المعاصرة.. وربما استطعنا أن نستدلّ بالأولى على الثانية. لأن الدلالة هنا تُعبّر تماماً على ما قصده القدماء من أهل المنطق والأصول في اللغة وعلم الكلام في قولهم: "أن يكون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر.. والمراد بالشيئين ما يعمّ اللفظ وغيره"(1).
وكما يقول تشارلز بيرت: " ليس باستطاعتي أن أدرس أي شيءٍ في هذا الكون إلا على أنّه نظام سيميولوجي".
وينطلق موضوع محاولتي هذه من معيار (القصد) الذي تبنّاه مونان ومارتيني وغيرهما من علماء سيميائيات التواصل. في مقابل مبدأ (التأويل) الذي تبنّاه اتجاه سيميائيات الدلالة لرولان بارت.
ففي أول إبداعيات الديوان وفي قصيدته "كامل"، التي تقطر دمعاً ودماءً والمهداة إلى روح الشهيد كامل شياع.. فهي صرخة مُدوّية في كل مقاطعها نُحسّ كأنّ طبلات آذاننا قد تتشظّى من طرقاتها الماطرة علينا بشهيق الرثاء.
هذه الأبيات المجتزأة من القصيدة الطويلة - وهو صاحب النفس الطويل - يقول فيها:
ما مات "كامل"../ "كامل" اختصر الطريق إلى السماءْ/ من كوّةٍ في رأسهِ المضيئ/ والجسد المُخضّب بالدماءْ/ قد كان يعلمُ/ أنّ "هولاكو" الجديد/ أتى/ ليحرث حقل دجلة بالقنابل/ ويدكّ أعشاش الحمامِ/ وأنْ يُطيل الليل/ في وطن الأرامل/ طمعاً ببتر الرافدين/ ونقمةً من "سبي بابلْ"/ لكنّ "كامل" كان كامل.
وفي قصيدة نهاوند ذات الترميزات واللمحات السيميائية يقول في أحد مقاطعها:
نسجتْ لها الأشذاء بُردتها../ يكاد يصير عشباً/ تحت خطوتها الحجرْ/ تمشي فيحتفل الرصيف../ وينتشي/ لرنيم خطوتها/ الوترْ.
تلك هي لعبة الكلمات في تلاطمها وفي انفجاراتها وفي تبعثرها على الهامش
تُدني "نهاوند":/ الفراديس البعيدة من عيوني/ والرصافة من سفيني/ والربيع الثرّ من حقلي/ ومن صحراء قافيتي المطرْ/ وتنشّ ذئب الحزن/ عن غزلان روحي../ توقظ الأوتار في قيثار حنجرتي../ يُضاحكني الندى/ فأعود - في الخمسين - طفلاً/ بيته الدنيا../ ودُميته القمر!.
وفي قصيدته الملتهبة بمشاعر شوقٍ لا يوصف: "ضوئية الشامات"، يذكر في أحد مقاطعها:
ليس انحيازاً لانتصاح اللائمين../ وليس من طول المسافةِ/ بين أشرعة السؤالٍ/ وبين ميناء الجوابْ:/ قررتُ إسدال الستارة حول نافذتي../ وتهشيم الكؤوس../ ورميَ ما أبقتْ لي الأيامُ/ في كوز الصبابةِ/ من شرابْ!.
لا يُمكن إلا أن يكون الخيال قد فعل ما يحلو له الشاعر فصار يرفض الانكسار في عمق ما يترائي له حين يحلم بأن ينهض متثاقلاً ليقول:
ضوئية الشامات:/ آن لسندبادكِ/ نشر أشرعة الجنون/ فلا تمدّي للغريق - إذا استغاث - الحبل/ أو/ طوق النجاة/ ليس انتقاماً منكِ: قررتُ الرحيلْ/ ليجفّ من عطشٍ دمي../ فأجيء نهركِ مُطفئاً جمري/ بأعذب سلسبيلْ.
وفي قصيدته العمودية الباذخة وزناً وموسيقى "على مشارف الستين" نكتشف في أكثر أبياتها بأننا نستطيع أن نقول: "كل بيتٍ بحد ذاته فيها هو قصيدة متكاملة المعنى، مثل:
ستون.. أحسب يومها سنةً/ ضوئيةً موؤودةَ الشُعلِ.
أو: شاخ الطريق وخطوتي اكتهلتْ/ ودَجَتْ شموس الصبح في مُقلي.
وكذلك: جيشان يشتجران في جسدي:/ نزق الشباب وهَدْيُ مُبتهلِ!.
أو في: قدّ الحبيب القلب من دُبُرٍ/ والأصدقاء الزورُ من قُبُلِ.
بعد قراءة هذه القصيدة العمودية، التي تُعتبر من اليحياويات الخالدة، يكفي أن يكون الشاعر شاهداً وعابثاُ في ذات الوقت، شاهداً على ما جرى، وعابثاُ بما يجري، هذا ما نلحظه أيضاً حين يتحوّل الشاعر إلى مسؤول عن طرح التساؤل:
من أين يُرجى للعراق غدٍ/ و"الأجنبي" أبٌ له و"ولي"؟/ أحلى الأماني أن أرى وطني/ حُراً وقومي دونما كللِ.
وفي أحلى أحلى القصائد التي قرأتها في العقد الأول من قرننا الحادي والعشرين بعنوان: "لماذا تأخرتِ دهراً عليّا؟"، من الواضح أن الشاعر في معظم نصوصه حاول جاهداً أن يُقدّم الألوان المعرفية التراثية في أخبار ومعلومات تأخذ أحياناً شكل السرد الدرامي والذي تتخلله الإشارات الدالة، كما يمتزج فيه أكثر من صوت: صوت الذات وصوت الجماعة وصوت الأشياء مضفورة مع حركة الذات والجماعة والأشياء. وحاول أحياناً أن يُقدّمها في صيغة تساؤل وفي صيغة محاكمة أحياناً أخرى وفي صورة لومٍ شديد للأنا الشاعرة التي تعبر الأنا الجماعية كما في قصيدته التي صار عنوانها، هو عنوان الديوان: "لماذا تأخرتِ دهراً".
تقولُ التي صيّرتني أنيساً/ وكنتُ العنيدَ../ الغضوبَ../ العصيّا:/ أما من إيابٍ/ إلى حيث كان النخيلُ/ مآذنكَ الباسقاتِ../ وكان الحمام "بلالاً"../ وكان الهديل الأذان الشجيا؟.
بالإمكان أن نلمح تصادماً قوياً بين رغبة تُسرج نفسها للماضي التليد وبين رغبةٍ أخرى تنطلق إلى الأمام ضاربةً بشدة ما سلف على عارضه شديد.. عندما يقول برغم الاحتفاء به الذي لقاه من محبيه في وطنه.
هنا يوحي لنا بالإحباط الذي اعتراه عند عودته للوطن وشاهد الخراب فيه:
لقد عُدتُ لو كان سعف النخيل/ كما الأمس../ لو أنّ لي سطح دارٍ../ وأنّ الحمام يُجيد الهديل../ ولكنّه القحط:/ لا الخبز في الصحن../ ولا التمر في العذق../ والماء في النهر لما يَعُدْ/ يملأ الكأس ريا.
وفي مقطع آخر من القصيدة تصاعد بلاغي:
أبي عاشَ سبعين عاماً ونيفاً/ على الخبز والتمرِ/ ما زار يوماً طبيباً../ وأمّي - إذا جُعتُ - تشوي لي الماء/ أو تنسج الصوف ثوباً/ فيغدو حريراً بهياً!.
وهكذا تبدو جدلية (السؤال والجواب) (الواقع والمفارق) مسيطرة وطاغية وباكية، إنها أشبه بالفأس الذي يقطع الأشواك والحشائش البليدة استعداداً لغرس مشتهاءات الشاعر ورواءه:
لماذا أتيتِ أوان الخريفِ/ وكنتِ على بُعد ضلعينِ/ من أصغريا؟/ لماذا تأخرتِ دهراً عليا؟/ فشرّقتُ .. غرّبتُ../ غرّبتُ .. شرّقتُ:/ طفلاً عجوزاً/ وكهلاً صبياً.
وهناك عشرة قصائد في متن الكتاب وهي: سادن الروضة مات/ يا ناسجاً كفني بمغزل غدره/ نذور/ وأنا سوطي وجلادي/ مقاطع من قصيدة ضائعة/ أين شطآنكِ مني/ صوفية النيران/ هوامش من كتاب الحزن العراقي/ سيدة النساء/ افتراق.
كلها تخضع لبنية القصيدة الحديثة فضلاً عن أنها تُشير بألفاظ خفية مستفيدة من الاستعارات الموحية إلى دلالات سيميائية، وهذه القصائد يتوضح فيها حقل الاشتغال على اللغة لإنتاج دلالات ذات طبيعة نصية.. وهذه الخاصية لدى الشاعر في اعتقادي هي خاصية فارقة قادرة على فرز وتصنيف نوع القصيدة.
في كل هذه القصائد العشرة التي لم أتناول مقاطعها مفردةٍ لأبيّن ملامحها السيميائية، والتي هي مُشبعة بها.. فأردتُ هنا أن أُشير إلى أنّ الشاعر أشاع جواً غزيراً من مطر الحب باستدعائه لكل هذه المفردات الراقصة النشوى التي نحبها.. ولأنّه لا يُريد لهذه الجذوة أن تنطفئ أو تخبو نارها، ويُريد أن تبقى مُشتعلة تهطل بأنوار الشوق واللهفة المتواصلة، من أجل كل هذه القصائد شفافة وعذبة.
وفي قصيدته "عتّقت أشواقي" التي يُهديها لصديقه الأديب عبد المقصود خوجة، يقول في مستهلها:
ما حاجتي للحِبر والورق/ وربابة تُنسي هموم شقي؟/ وأنيسة ترفر بمبسمها/ جُرحي وتُطفئ جمر مُحترقِ؟
حتى يقول فيها: عتّقتُ أشواقي فخمرتها/ سكرتْ بها قبل الخطى طُرقي/ يا ناسجاً لي من مودّته/ ثوبين من دفءٍ ومن ألقِ.
ثم بعد تكثيف بالمشاعر يقول: واستفردتني الموحشات فمِنْ/شفقٍ تمصُّ دمي إلى غسقِ.
قبل أن ينتهي من قراءة هذه السيمفونية بإيقاعيتها المُحبّبة لا يسعك إلا أن تقول: "هوذا الشاعر المُجدّد والمحافظ على التقاليد الشعرية، والذي يرفض بشدّة رائحة الهزيمة":
أنا يا سميري أضلعي قلمي/ أما الجفون فإنها ورقي/ حدِّق تجدك بمقلتي نسغاً/ يمتد من قلبي إلى حدقي.
في قصيدته التي اختتم بها مجموعته الشعرية "إسألي الصبر.. أمثلي عاشق؟"، والتي تبدو للوهلة الأولى غير متجانسة، ولكنها شيئاً فشيئاً تجتمع عند بؤرة واحدة مكثّفة، تمتص ذاتها وتُطلق عنان رفضها، ساخرة من المعتاد، واستل منها مقاطعاً:
جرّبيني تجديني خمرةً/ تُسكر الكأس وزِقّ العَرّق.
أو حين يقول: جرّبي موج جنوني تجدي/ نعمة اللذة بعد الغَرّق.
وكذلك: أتسلّى بهمومي.. فأنا/ طائر الوهم: سعيدٌ وشقي!.
ثم في مقطع آخر: أتخافين حريقي؟ لهبي/ ناعمُ الجمر لذيذ الحُرقِ.
وكذلك يختتم بالأبيات الآتية: أبدأ القِصّة من آخرها:/ ذهب العُشّاق والعِشق بقى/ طالما كنتِ شراعي فأنا/ مُبحرٌ حتى حدود الغرقِ.
الشاعر بهذه القصيدة يلوي عنق الكلمات بغضبٍ واحتراسٍ أيضاً، إنّه يلوك المعاني خلف هرجة تناقضات المواقف، غير آبهٍ بشيءٍ سوى التحليق بالشعر إلى السمو البلاغي بدلالات فيها الكثير من التكثيف والمراوغة.
وهكذا تنسج اللغة والدلالات لدى يحيي تناقضاتها وتُنتج الأضداد، لتخلق عالم يرجح بين الحقيقة والخيال وبين الواقع والتاريخ وبين الصمت والصراخ.
وأخيراً فإن يحيي يبقى لنا السؤال مفتوحاً، يضم بين شدقيه، عنف الماضي، ورعب الحاضر، وظلامية المستقبل.