أعيش مثل الكثير من المصريين، خاصة من هم في عقدهم الرابع من العمر مثلي أو من جاوزوه -هذه الآونة- شعوراً غير مرحب به لم نعايشه من قبل، وأصفه دون مواربة وتجميل للكلمات بأنه شعور بالإغتراب .
من غير الطبيعي أن يشعر المرء باغتراب وهو في مسقط رأسه بين ذويه وأصدقائه، ولكن الإغتراب الذي أعنيه هنا هو الإغتراب عن الزمن والشعور بالوسط المحيط .
وتوضيحاً لإ بهام ما أعنيه، فإن المقصود بالإغتراب هنا هو ذلك الشعور الذي يجعل المرء منا دائم التحسر على الماضي والتعجب من الحاضر والشعور بالخوف من المستقبل، ولا أقصد الحنين إلى الماضي أو النوستالچيا كما يعرفها البعض، فالحنين إلى الماضي بشخوصه وببعض أحداثه شيء و ما أعنيه هنا شيء آخر، هو خوف من المستقبل وعليه في الأساس .
ولنربط بين هذا المعنى وبين الهوية التى نخشى ضياعها فإنه من الواجب أن نوضح ما نعنيه بالهوية .
إن الهوية هي ذلك الطابع المميز الفريد الذي يختلف بين أمة وأمة أو بين جماعة وأخرى، بل بين كل إنسان وآخر، تلك الهوية قد تكون اجتماعية أو سلوكية أو دينية أو سياسية إلى آخر تلك المبادئ التي قد تجمع الأفراد تحت مظلتها الواحدة .
وعوداً إلى ما بينته من شعوري وشعورغيري من الناس بالإغتراب في عصرنا الحالي إزاء ما يدور حولنا من متغيرات، فإن الربط بين هذا الشعور وبين عدم وضوح ملا مح الهوية المصرية هو أمر هام للغاية .
من الواجب أولاً أن نبين أن ما قد ساد ويسود أية أمة من الأمم من عادات وتقاليد ليس بالأمر المقدس الذي لا يمكن تغييره ومناقشته وتعديل ما قد يعتريه من أخطاء، فالكمال لله عز وجل وحده والقدسية لأوامره و نواهيه، ولا أحد من البشر معصوم من الخطأ إلّا الأ نبياء والرسل، و من عداهم من الناس هم بشر يصيبون ويخطئون ويؤخذ منهم ويرد .
ولكن مجتمعاً موغلاً في القدم كالمجتمع المصري لابد أن تكون قد تكونت له على مر السنوات والقرون الطويلة حصيلة ضخمة من الأ فكار والتوجهات الدينية واللغوية والاجتماعية، كونتها مجموعات لا تحصى من موجات الغزو العسكري وغير العسكري، كما كونتها في الوقت ذاته موجات متوالية من الهجرة من وإلى داخل المجتمع المصري على مر القرون، فنشأت في نهاية الأمر هوية مركبة تفردت بها مصر عن العديد من دول المنطقة و أممها .
إنني لست من أنصار الرأي القائل بأن مصر هي الحضارة وحدها وما عداها كهوف ومجاهل، ربما كان ذلك حقيقياً إلى حد ما منذ آلاف السنين، لكن الواقع يقول أيضا بأن هناك العديد من دول العالم القديم كانت ذات ثراء وخصب حضاري واجتماعي في نفس الوقت، و لكنني كمصري يعنيني وطني في المقام الأول، على الرغم من اعتقادي بأن المبادئ المطبقة على مصر تطبق على العديد من الأمم غيرها، و لا يضيرني كما لا يضير غيري أن يكون لكل منا حضارته وهويته الخاصة به .
لكن تلك الهوية المتكونة على مر آلاف السنوات والتي اشتركت في تكوينها العديد والعديد من الأفكار والتوجهات التي انصهرت جميعها في البوتقة المصرية تعاني اليوم حالة من انعدام الشكل والتوجه المطّرد و لذي لا أظنها قد عانت مثله من قبل .
من المحتمل أن يقول قائل بأن الحالة التي نعيشها الآن قد تكون هي الأخرى مرحلة من مراحل التغيير الطبيعي ودورة هدم وإعادة التكوين التي تعيشها أي أمة من الأمم في كل عصر من العصور، لكنني أرى خلا ف ذلك بأن التغير المفرط في الهوية المصرية هو نذير بأنها قد أصبحت في مرحلة ما قبل التمزق الذي يسبق الذوبان والانطماس لحساب الهوية العالمية .
ولتوضيح معنى الهوية العالمية فهو ببساطة شديدة أن تكون الأفكار الاجتماعية والثقافية و الدينية وغيرها من الأفكار على مستوى متقارب قد يرقى إلى التماثل في مختلف بقاع الأرض، و ذلك التقارب تحدده وتوجهه سياسات وقواعد توضع بعناية ودقة بالغتين مدروستين، ليجد المرء نفسه في نهاية الأمر مضطراً إلى مجاراة نمط من الحياة والتفكير وضعه غيره كما شاءوا أن يفعلوا، ولا حيلة له في ذلك ولا يد تدفع .
لقد انفتحت مصر - طوعاً و كرهًا- على العديد من الثقافات والأ فكار، بداية من عصر الفراعنة الذي لم يكن كله ازدهاراً و شموخاً، بل سادته في بعض الأ وقات حالات من الإنهزام والضعف جعلته عرضة للغزو من الفرس والبدو واليونان والرومان وغيرهم، وخرج هؤلاء كما دخلوا و استمرت المسيحية واليهودية دينان لشعب مصر، ليعقبهما الإسلا م الذي كان دخوله مصر عاملاً مهماً في إعادة تشكيل الهوية المصرية، و لكنه على الرغم من ذلك قد اصطبغ في مصر بصبغة خاصة تركت بصمتها عليه، ليصبح للإ سلا م في مصر مظهراً يختلف عن مظهره في باقي بلا د المسلمين .
و لم يكن الوجود العثماني وما تلاه من غزوات أوروبية ليغير من هوية المصريين الكثير، فهؤلاء قد استمروا مدتهم على أرض مصر ثم رحلوا بأجسادهم تاركين خلفهم القليل من تأثي هم المعنوي الذي امتصه هو الآخر الوجدان المصري المرن .
أما خلا ل القرن العشرين فقد حدث تحول جديد في الهوية المصرية، فبعد أن تألقت الهوية العربية في العهد الناصري، حدث تحول نوعي سببته الأوضاع الإقتصادية التي تلت ما خاضته مصر من حروب أجبرت على خوضها أو اختارتها طوعاً كما يرى البعض، فقد لجأ الملايين من المصريين إلى الخروج من وطنهم بحثاً عن مكان أفضل للحياة، فألقى البعض عصا ترحاله غربا أو شرقاً، لكن الأغلبية العظمى من هؤلاء قد وجدوا في الهجرة لدول الخليج العربي النفطية الحل الأمثل في نظرهم، نظرًا لانعدام حاجزي اللغة والدين أو اللغة فقط، و تفوق الوضع الاقتصادي هناك عن نظيره المصري بمراحل عديدة، فكانت هذه الدول هي أرض الحلم للكثير من المصريين ابتداء من نهايات خمسينات القرن الماضي وصولاً إلى يومنا الحالي، و إن تراجع ذلك التألق والبريق إلى حد كبير في وقتنا الحاضر بسبب عوامل متداخلة يطول شرحها، و لكنه ترك في المجتمع المصري وغيره من المجتمعات العربية التي اتخذ ابناؤها دول الخليج العربي في تلك الحقبة آثاراً اجتماعية وسياسية عايشت تلك الشعوب ومنها شعب مصر آثارها حتى الآن .
لم تكن تلك التأثيرات مألوفة لدى العديد من المصريين قبل ذلك، تأثيرات اقتصادية تمثلت في رفع القوة الشرائية لقطاعات مختلفة من الشعب المصري خلقت حالة من الرفاهية الإستهلا كية لم يعرفها المصريون من قبل، أدّت بدورها إلى خلق طبقة جديدة داخل المجتمع المصري، طبقة لم تكن تجد لها على أرض مصر الفرصة التي تساعدها على تحسين أحوالها، فنالت ما أرادته وأكثر منه، وخلقت على الجانب المقابل طبقة من المصريين من ذوي العلم والخبرة والكفاءة الذين لم يجدوا فرصة مماثلة تضمن لهم المستوى المادي المرتفع نفسه - أو لم يسعوا لها- فأصبحوا شبه مهمشين داخل الطبقة الوسطى التي أصبح التهديد بغيابها عن المجتمع المصري داهماً .
الأثر الأخطر لتلك الهجرات قد تمثل في الجانب الاجتماعي بشقيه الأ سري والديني، فقد كان من المعتاد أن نرى أسراً قد تشتت شملها فصار الوالدان في بلد والأ بناء في بلد آخر سعياً وراء جمع المال، مع ما صاحب ذلك من آثار وخيمة كانت هي البداية لكثير مما نشهده اليوم من أزمات اجتماعية وأسرية .
أما على الصعيد الديني فقد قدمت إلينا أفكار مذهبية لا تخرج في مجملها عن التشريع الإسلامي العام، ولكنها في الوقت ذاته تختلف عن التوجه الذي كان سائداً في التشريع الديني الإسلامي لدى المصريين لقرون عدة مضت خلف قيادة المؤسسة الدينية الأزهرية العتيقة، فأصبح الرأي الديني في المسائل المتنوعة وعلى رأسها المسائل الاقتصادية والمالية وغيرها يجعل المسلم المصري العادي الراغب في توفيق أوضاعه مع الشريعة الإسلامية في حيرة من أمره بسبب ما يراه من تضارب في مخرجات الفتوى بين هؤلاء وهؤلاء .
ومنشأ ذلك الإختلاف يرجع إلى أن الفقه الإسلامي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف بيئته ومجتمعه، وشتان بين ظروف المجتمعين المصري والخليجي خاصة فيما يتعلق بالمظاهر الاجتماعية والحياتية، ومن هنا كان منشأ الاختلاف .
ولكن كل ما مضى ذكره أصبح أغلبه من الماضي الذي بدأت آثاره في التواري والإختفاء، مفسحة الطريق أمام حاضر ومستقبل مختلفين تماماً، السيد والقائد فيهما هو التوجه العالمي او (العولمة) كما عرفناها في باديء الأمر، وهو تغير غير مفاجيء، وإن كان فائق السرعة، فلقد حدثت متغيرات خلال ربع قرن مضى لم تحدث مثلها طوال قرنين من الزمان، وأصبحت الثورة المعلوماتية والإتصالية اللتان كانتا وليدتان للعلم والتقنية كالسلاح الذي له حدان، ولا أعتقد أن عاقلاً ما ينكر مدى التوغل الشديد الذي توغلته تلك الأدوات والوسائل في حياتنا، والغريب أن قطاعاً ليس بالضئيل منا قد رضي أن تستباح خصوصيته على الملأ (العالمي) بكل أريحية، غير مبالين بوجود جيش كامل من منتظري تلقف تلك المعلومات الخاصة واستثمارها كما تملي على كل منهم توجهاته ورغباته، فمن هؤلاء من يستثمرها تجارياً و تسويقياً، ومنهم من يستخدمها لنشر وترويج أفكاره ومبادئه، ومنهم من يبتز بها غيره .. إلى آخر ذلك من الأهداف .
ومن أهم المظاهر التي صاحبت ذلك الإنفتاح العالمي بين الشعوب، وشعب مصر لم ينج منها، هو ورود أفكار ومباديء غريبة تماماً عن المجتمع المصري إلى عقر كل بيت مصري، وليس كل ما يأتي من الغرب شر، فهذا قول ينافي الحقيقة والواقع، لكن الغريب أننا قد أخذنا مما يأتي من الغرب ومن الشرق أيضاً كل جيد ورديء وكأننا قد فقدنا قدرتنا على التمييز، وأسهل ما أخذناه عنهم هو المباديء الفكرية والمظاهر الاجتماعية التي لا تحتاج لتنفيذها إلى جهد و لا بحث، مع أنها رغم سهولة الأخذ بها تحمل في طياتها الخطر الداهم الذي ينذر بذوبان الهوية المصرية تماماً، ولا أعني بالهوية المصرية هنا الهوية الدينية سواء كانت مسيحية أو إسلامية فقط، ولا أعني كذلك افتخارنا الدائم بمراحل الحضارة المصرية المتعاقبة بتنوعها، فمعنى الهوية يشمل ذلك كله، والذوبان الحضاري الذي أعنيه ينسف ذلك كله أيضاً، فقد أصبحت أفكار كالشذوذ الجنسي أو ما يسمى بالمثلية الجنسية ورفض الأديان والإلحاد والتنكر للتراث البعيد والقريب بأكمله – دينياً و ثقافياً وفنياً - مألوفة عندنا، يصاحب ذلك قبول واستكانة غريبان إزاء مظاهر وأفكار كانت تعد مستنكرة ومرفوضة من الكيان الجمعي الشعبي المصري لقرون طويلة، فأصبح من المتعارف عليه الانتقاص من قيمة اللغة العربية واعتبار اللغات الاجنبية والتحدث بها هما مظهر الرقي والثقافة، وانغمس أغلب الشعب في مظاهر مادية واستهلاكية مفرطة أدت بدورها إلى أزمات اقتصادية واجتماعية تضاف إلى الأزمات التي كانت تملأ عقول المصريين من الأساس .
من المعلوم أن التغيير سنة كونية لا مفر منها، لكن شتان بين التغيير الذي يدفع المجتمع إلى التقدم وبين الغزو الفكري – عشوائيا أو منظما- للعقول والأفكار، وهنا قد يتبادر سؤال من الواجب الإجابة عنه وهو :
ما الضير من ذوبان الهويات والأفكار الخاصة بالشعوب بعضها في بعض ؟
والإجابة عن هذا السؤال تلزمنا أن نتخيل وضعاً قد اختلطت فيه أفكار ومباديء أو ديانات وثقافات سويا، قد يرى بعض حسني النوايا في وضع كهذا أنه سيخلق حالة من التوافق والتعايش السلمي العالمي بين بني البشر، وما سيعقب ذلك من سيادة السلام وإنهاء صراعات كانت قائمة لعشرات السنين، لكن الواقع المؤسف والتاريخ يقولان عكس ذلك، فالدول والشعوب لا تقاد بتلك النوايا الحسنة في تلك الصورة المبسطة، وتاريخ البشرية خير دليل على ذلك لمن أراد النظر فيه، وفي أغلب الأحيان كانت مظاهر ذلك التداخل والذوبان الحضاري هما مقدمة لسيطرة وسيادة أمة على أمة أو أمم أخرى، دون نظر لتلك المباديء السامية، ولا أعني أن (صراع الحضارات) كما أطلق عليه صمويل هنتنجتون في نظريته هو أمر حتمي أيضاً، لكن الذي أعنيه أن الشعوب والحضارات عليهم أن يتقبلوا التعايش سوياً والتبادل بأنواعه فيما بينهم مع ما بينهم من اختلاف، تمامًا كما علينا أن نقبل الأفراد الذين يختلفون عنا داخل المجتمع الواحد دون أن يلزم ذلك أياً منا بتبني نظرية الآخر أو فعل ما يفعله، فكل فرد منا أمة في حدود نفسه إن جاز التعبير، و إن أراد ذلك الفرد أو تلك الأمة أن تذاب الحدود بينه وبين نظرائه تماماً، ليكون الجميع ذوي توجه واحد أو رأي متطابق، فذلك تعدٍ سافر على حقوق الغير ينذر بالاستحواذ عليه حرفياً، فرداً كان أو أمة، فإن القاسم المشترك بين البشر أفراداً وأمما هو المصلحة المشتركة التي تراها الأغلبية من ذوي العقول والرأي الصحيح، وهذا في التوجهات والقضايا العامة، ولكن في نطاق الخصوصية فالأمر يختلف .
ونحن كمصريين أو غير مصريين، يجب علينا أن ندرك حقيقة هامة ،، وهي أن ضياع الهوية الخاصة بالفرد أو الأمة وذوبانها سيورث الأجيال المتعاقبة أزمة الاغتراب التي ذكرناها في بداية المقال، وهي أزمة يعايشها الكثير ممن استقروا في مجتمعات جديدة، وكان رد فعلهم إما التقوقع الذاتي أو الذوبان التام في تلك المجتمعات، وكلاهما في نظري صورة من التطرف، والمرحلة القادمة من ذلك الذوبان الحضاري هو اغتراب المرء داخل وطنه وهو الأمر المؤرق بالفعل .