- يا لِهذا الزحامْ، يبدو أنني سأبيتُ ليلتيْ في السيارةِ اليومَ .
قالها لنفسهِ وهوَ جالسٌ في مقعدهِ خلفَ مقودِ السيارةِ يتصببُ عرقاً غزيراً وأمامهُ مئاتُ السياراتِ التي تنتظرُ أنْ ينفرجَ هذا الزحامُ الرهيبُ .
أكمَلَ مخاطباً نفسهُ في حَنَقٍ :
- مِنَ الحماقةِ بالفعلِ أنّي قدْ أصررتُ على أنْ أذهبَ إلى العملِ بالسيارةِ اليومَ، إنّهُ أولُ أيامِ شهرِ رمضانَ والجميعُ يريدُ أنْ يكونَ في بيتهِ قبلَ موعدِ الإفطارِ .
زَفَرَ في ضيقٍ بالغٍ وهوَ يراقبُ السياراتِ التي أمامهُ مرةً أخرىْ وقدْ بدتْ كجدارٍ منيعٍ يقفُ أمامهُ وقدْ تراصّتْ أحجارُهُ لتمنعهُ منَ الرؤيةِ .
تناولَ هاتفَهُ الجوّالَ وطلبَ رقماً، فأتاهُ الردُ قائلاً :
- لماذا تأخرتَ هكذا يا خالدْ ؟ لقدِ أقلقتني كثيراً، وقدْ حاولتُ الإتصالَ بكَ مراتٍ عديدةٍ ولكنكَ لمْ تردْ .
قالَ خالدٌ :
- يا عزيزتيْ إننيْ وسطَ مئاتِ السياراتِ التي يصمُّ صوتُ محركاتها الآذانَ، لابدَّ أنني لمْ أسمعْ رنينَ الهاتفِ .
قالتْ : هلْ ستتأخرُ، إنَّ الأطفالَ في انتظاركَ ولنْ يتناولوا الطعامَ حتى تحضرَ.
قالَ : أرجوْ أنْ أصلَ إليكمُ اليومَ وليسَ غداً، سأتناولُ طعامَ الإفطارَ هنا فيْ السيارةِ على ما يبدوْ .
ضحكتْ قائلةً :
- سأحتفظُ لكَ بنصيبكَ منَ الطعامِ، فلا تقلقْ .
قال : أرجو أن تأتيَ به إليّ هنا إذا استطعتِ .
وأنهىَ المكالمةَ وعادَ يتطلَّعُ مرةً ثانيةً إلى السياراتِ المتراصَّةِ أمامهُ .
وبشكلٍ مباغتٍ، وجدَ طابورَ السياراتِ الطويلِ وقدْ بدأَ يعلوْ صوتُ محركاتهِ وبدأَ في التحركِ إلى الأمامِ في بطءٍ شديدٍ، ثُمَّ بدأتِ السرعةُ تزيدُ شيئاً فشيئاً، ما جعلهُ يقولُ في ارتياحِ مَنْ وَضعَ جبلاً كانَ يحملهُ على عاتقهِ :
- أخيراً .
وتحركَ بسيارتهِ معَ أسطولِ السياراتِ وهوَ يُمَنِّي نفسهُ بالعودةِ إلى البيتِ والاستحمامِ والنومِ و ...
وأفاقَ منْ حلمهِ الجميلِ على انتفاضةٍ قويةٍ لجسدهِ، كانَ سببها ارتطامُ مقدمةِ السيارةِ التي خلفهُ بمؤخرةِ سيارتهِ هوَ، وبأعجوبةٍ تمكنَ مِنْ منعِ سيارتهِ مِنَ الارتطامِ بالسيارةِ التي أمامهُ، ما جعلَ إطاراتِ سيارتهُ تطلقُ صريراً مزعجاً وهيَ تحتكُ بالطريقِ وهوَ يصيحُ في غضبٍ :
- ما هذا ؟
توقفتْ سيارتُهُ تماماً، ونزلَ منها في غضبٍ بالغٍ ووجهُهُ في حالةٍ منَ الاحتقانِ الشديدِ وهوَ يُقسمُ بداخلهِ أنْ يلقِّنَ قائدَ السيارةِ الخلفيةِ درساً لنْ ينساهُ .
كانَ أولُ ما فعلهُ هوَ فحصِ مؤخرةِ سيارتهِ ليرىْ ما بها مِنْ ضررٍ، كانَ هناكَ اعوجاجٌ في بدنِ السيارةِ، وكسرٌ بسيطٌ بأحدِ مصباحيها، لمْ تكنِ الأضرارُ بالغةً كما كانَ يخشى، ولكنَّه لمْ يكنْ يعرفُ لماذا كانتْ هناكَ رغبةٌ قويةٌ بداخلهِ للشجارِ معَ قائدِ السيارةِ الخلفيةِ، على الرغمِ مِنْ أنهُ كانَ قدْ عاهدَ نفسهُ أنْ يلتزمَ بحسنِ السلوكِ طيلةَ شهرِ رمضانَ وأنْ يتخلى عنْ عصبيتهِ المفرطةِ، ولكنَّ منَ الواضحِ أنهُ كانَ قدْ نسيَ تلكَ العهودَ و المواثيقَ التي قطعها .
تطلعَ بعينينِ غاضبتينِ نحوَ قائدِ السيارةِ الخلفيةِ الذي نزلَ منها وأخذَ يفحصُ مقدمةَ سيارتهِ التي كانتْ أضرارها أقلَّ بكثيرٍ منَ السيارةِ الأماميةِ .
لمْ يعرفُ لماذا شعرَ بأنهُ قدْ رأىَ ذلكَ الشخصِ منْ قبلُ أوْ أنهُ قدْ تعرَّفَ عليهِ منْ قبلُ، ولكنهُ لمْ يتوقفُ كثيراً عندَ تلكَ الملاحظةِ في غَمرةِ غضبهِ وعصبيتهِ مما حَدثَ فتوجَّهَ نحوَ قائدِ السيارةِ الثانيةِ الذي لمْ تكنْ ملامحهُ تنبيءُ بخيرٍ هوَ أيضاً و صاحَ بحدةٍ في وجههِ قائلاً :
- أينَ تعلمتَ القيادةِ ؟ ألمْ تسمَعُ يوماً ما عنْ تركِ مسافةٍ آمنةٍ بينَ سيارتكَ والسيارةِ التي أمامكَ ؟!
قالَ الآخرُ بحدةٍ :
- أنتَ الذي تبدوْ حديثَ عهدٍ بقيادةِ السياراتِ، هلْ يوجدُ إنسانٌ طبيعيٌّ يفعلُ ما فعلتهُ أنت ؟ كيفَ توقفُ سيارتكَ فجأةً هكذا وسطَ هذا الزحامِ الشديدِ، هلْ كنتَ نائماً أَمْ ماذا ؟
صاحَ خالدٌ :
- يالكَ مِنْ شخصٍ غريبِ الطباعِ، أتتهمُني أنا بالخطأِ ؟ّ مِنَ المعروفِ لأيّ طفلٍ صغيرٍ أنَّ قائدَ السيارةِ الخلفيةِ هوَ المُلامُ دوماً إذا حدثَ صدامٌ بينَ سيارتينِ، القواعدُ والعقلُ يقولانِ هذا .. إنْ كانَ يوجدُ عقلٌ مِنَ الأساسِ .
بدا الذهولُ على وجهِ الرجلِ الآخرِ للحظةٍ وكأنهُ لمْ يفهمُ ما يعنيهِ خالدٌ بكلامهِ الحادّ أوْ أنهُ قدِ اندهشَ منَ اتهامِ خالدٍ لهُ بالغرابةِ وانعدامِ العقلِ، ولكنَّ لونَ وجههِ ما لبثَ أنْ تحولَ إلى اللونِ الأحمرِ منْ شدةِ الغضبِ وتوجهَ نحوَ خالدٍ في حدةٍ و هوَ يريدُ أنْ يمسكَ بتلابيبهِ ليتشاجرَ معهُ .
تحفزَّ خالدٌ لهجومِ الرجلِ وبدا كما لوْ أنهٌ سيمسكُ بملابسهِ هوَ الآخرُ لولا أنْ تدخَّلَ بعضُ قائدي السياراتِ والمارةُ الذينَ كانوا قدْ تجمَّعوا لرؤيةِ ما يحدثُ وسطَ ضجيجِ أبواقِ السياراتِ التي تعلنُ اعتراضَ قائديها على تعطلِ المرورِ الذي حدثَ .
أخذَ كلٌ مِنْ خالدٍ وسائقُ السيارةِ الأخرى في الصياحِ والسبابِ دونَ أنْ ينتبها إلىَ ضابطِ الشرطةِ الذي اخترقَ الجمعَ الملتفَ حولَ الرجلينِ المتشاحنينِ ثُمَّ صاحَ بصوتٍ هادرٍ :
- هذا يكفي .. توقفا .
توقفَّ كلٌّ مِنْ خالدٍ والرجلِ الآخرِ عنْ صياحهما ولزِما الصمتَ في غضبٍ .
قالَ الضابط ُ بصرامةٍ :
- ماذا حدثَ ؟
اندفعَ خالدٌ والرجلُ الآخرُ في عصبيةٍ يروي كلٌّ منهما ما حدثَ مِنْ زاويةِ رؤيتهِ والتي يسعي بها لإلقاءِ اللومِ على الآخرِ فيما حدثَ .
كانَ الضابطُ ينقلُ بصرهُ بينهما وهما يتحدثانِ دونَ أنْ يُعَقّبَ، وبدا لهُ أنهُ لنْ يفهمَ شيئاً منهما على الإطلاقِ، فأَولاهما ظهرَهُ وأخذَ يفحصُ السيارتانِ ويُقَّدرُ المسافةَ بينَ السيارتينِ وينظرُ إلى علاماتِ الإطاراتِ على الطريقِ، كلُّ ذلكَ كانَ يحدثُ بينما كانَ خالدٌ وغريمهُ لا يزالُ كلٌ منهما يلقِي باللومِ على الآخرِ في عصبيةٍ بالغةٍ .
قاطعهما الضابطُ قائلًا :
- هذا يكفي ... لقدْ عرفتُ ما أريدُ معرفتهُ .
وتوجَّهَ بحديثهِ إلى قائدِ السيارةِ الخلفيةِ قائلًا :
- إنكَ المخطيءُ يا سيدي، إنكَ لمْ تتركُ مسافةً كافيةً بينَ سيارتكَ والسيارةِ التي أمامكَ، هذا واضحٌ مِنْ شكلِ الصدماتِ على السيارتينِ و مِنْ علاماتِ الإطاراتِ على الطريقِ .
انتفختْ أوداجُ خالدٍ وقالَ في زهوٍ :
- أرأيتَ .. إنكَ المخطيءُ كما أخبرتكَ ولكنكَ مكابرٌ و ...
قاطعهُ الضابطُ قائلًا :
- لا تتحدثْ يا سيدي .. أنا مَنْ سيتحدثُ الآنَ .. أتفهمني ؟
لزمَ خالدٌ الصمتَ ولكنَ نظراتُ التشفّي كانتْ تملأُ عيناهُ .
قالَ الرجلُ الآخرُ :
- و لكنني لمْ أخطيءُ في شيٍء .
قالَ الضابطُ :
- هذا ما نتجَ عنْ فحصي لموقعِ الحادثِ، وأقترحُ عليكما أنْ تتفاهما على إصلاحِ الأعطالِ بصورةٍ وديةٍ و إلّا سأضطرُ إلىَ اصطحابكما إلى مركزِ الشرطةِ لعملِ محضرٍ رسميٍّ بما حدثَ ... الأمرُ يعودُ إليكما .
لمْ يكنْ خالدٌ مستعدًا للانخراطِ في تلكَ الاجراءآتِ الرسميةِ الطويلةِ على الرغمِ مِنْ قولِ الضابطِ أنهُ ليسَ ملومًا وأنَّ الرجلَ الآخرَ هوَ المخطيءُ فقالَ :
- أنا علىَ استعدادٍ للتصالحِ يا سيدي إنْ أبدى هوَ استعداده لذلكَ .
و لكن دهشتهُ كانتْ بالغةً عندما سمِعَ قائدَ السيارةِ يقولُ في تحدٍ :
- لنْ أتصالحَ أيها الضابطْ، لنذهبُ إلى مركزِ الشرطةِ ونرى ما يقولهُ القانونُ، أنا لستُ مخطئًا ومصرٌّ على ذلكَ .
أرادَ خالدٌ أنْ يبدأَ شجاراً جديداً معهُ ولكنَّ وجودَ الضابطِ منعهُ مِنْ ذلكَ .
قالَ الضابطُ في هدوءٍ تفوحُ منهُ رائحةُ الغضبِ :
- كما تريدُ ... أريدُ أوراقكما وستتحركا معيَ إلى مركزِ الشرطةِ .
ونظرَ بغضبٍ إلى السياراتِ المكدَّسةِ ثُمَّ قالَ :
- بعدَ أنْ تتحركَ تلكَ السياراتِ .
كانَ خالدٌ في قمةِ غيظهِ وهوَ يُخرِجُ أوراقهُ مِنْ حافظةِ أوراقهِ التي تركها بالسيارةِ ليعطيها للضابطِ، وفَكَّرَ للحظةٍ أنْ يتنازلَ عنْ كلِّ شيءٍ نظيرَ أنْ يُنهيَ ذلكَ الموقفَ السخيفَ ويعودَ إلى منزلهِ، ولكنَّ عنادَ وصلفَ الرجلِ الآخرِ منعاهُ مَنْ أنْ يتساهلَ أوْ أنْ يتنازلَ .
تحركَ الضابطُ ليستقلَّ دراجتهُ الناريةِ ويتوجهَ إلىِ مركزِ الشرطةِ، ورمقَ خالدٌ قائدَ
السيارةِ بنظرةٍ ناريةٍ قابلها الآخرُ بلا مبالاةِ واضحةِ واستقلَّ كلٌّ منهما سيارتهُ وتوجها
إلى مركزِ الشرطةِ ليكملا الإجراءآتِ القانونيةِ .
لزمَ الأمرُ ساعاتٍ حتى انتهتِ التحقيقاتُ عادَ بعدها خالدٌ منهكًا إلى بيتهِ ليجدَ زوجته وطفليهِ في قلقٍ بالغٍ بسببٍ تأخرهِ .
قصَّ خالدٌ ما حدثَ على زوجتهِ بعدَ هذا اليومِ الطويلِ والتي سألتهُ :
- وماذا فعلَ ذلكَ الرجلُ بعدها ؟
قالَ خالدٌ :
- الغريبُ أنهُ ظلَّ يُعاندُ ويصرُّ على عدمِ خطئهِ طوالَ فترةِ التحقيقِ، حتى ملَّ
منهُ المحققُ وأخبرهُ أنَّه هو المخطئ ُ و لا مفرَّ مِنْ ذلكَ .
قالتْ زوجتهُ : ثُمَّ ماذا ؟
قالَ خالدٌ : سيتمُّ ابلاغي بما سيحدثُ بعدَ انتهاءِ الاجراءآتِ، لقدْ تركتُ لهمْ بياناتي وعنواني .
قالتْ زوجتهُ : حمداً للِه على سلامتكَ .
قالَ خالدٌ : حمدًا للهِ . سأنالُ قسطًا منَ الراحةِ الآنَ وغدًا أتوجهُ لمركزِ الصيانةِ لفحصِ
ما بالسيارةِ مِنْ أعطالٍ .
مرَّ أسبوعٌ على خالدٍ نسيَ خلالهُ ما حدثَ في خِضَمِّ مشاغلهِ، وفي اليومِ الثامنِ وجدَ
خطابًا موجهًّا إليهِ في انتظارهِ عندَ عودتهِ منْ عملهِ . كانَ مِنَ الواضحِ أنهُ خطابٌ
حكوميٌّ، وفهمَ خالدٌ أنَّ الأمرَ متعلقٌ بالحادثِ بكلِّ تأكيدٍ .
فضَّ خالدٌ الخطابَ ليقرأَ ما فيهِ، ولكنَّ لونَ وجههِ ما لبثَ أنْ امتقعَ فسألتهُ زوجتهُ
التي كانتْ بجوارهِ في قلقٍ :
- ما الأمرُ ؟
قالَ خالدٌ بذهولٍ : كيفَ لمْ انتبهُ إلى ذلكَ ؟
بلغَ قلقها ذروتهُ فقالتْ :
- ما هوَ ؟
لمْ يُحرّ جوابًا وعادَ بذاكرتهِ إلى يومِ الحادثِ، لقدْ كانَ يشعرُ أنهُ يعرفُ ذلكَ الرجلَ
الذي تشاجرَ معهُ بصورةٍ أوْ بأخرى، ولكنَّهُ عرفهُ الآنَ .
مدَّ يدهُ بالورقةِ إلى زوجتهِ قائلًا :
- إقرأي اسمَ خصمي في الحادثِ .
قرأتِ الاسمَ و قالتْ :
- ماذا في هذا الاسمِ ؟
قالَ : ألمْ تنتبهي إلى اسمهٍ ؟ إنهُ ابنُ عمِّي .
قالتْ بدهشةٍ بالغةٍ :
ماذا ؟ ! أأنتَ واثقٌ مما تقولُ ؟ قدْ يكونُ تشابهًا في الأسماءِ لاغيرَ .
هزَّ رأسهَ نافيًا :
كلَّا . إنهُ هوَ . لقدْ شعرتُ أني أعرفهُ ولكنَّ انفعالي طغى على تصرُّفي . إنهُ ابنُ عمٍّ لي
لمْ أرهُ منذُ سنواتٍ طوالٍ .
قالتْ : وماذا ستفعلُ ؟
قالَ :
- لا أعرفُ حقًا، لا أعرفُ يا علياءُ، ولكنني بكلِ تأكيدٍ لنْ أستمرَّ في الإجراءآتِ القانونيةِ ضدهُ، المسألةُ هيَ أنني لا أعرفُ كيفَ أُصلحُ الموقفَ بيني و بينهُ .
قالت علياءُ :
- منَ المؤكدِ أنَّ خطابًا مماثلًا قدْ وصلَ إليهِ وقدْ عرفَ منهُ منْ تكونُ ، وحينها سيدركُ أنَّ كلَّ ما حدثَ كانَ منَ الخطأِ أنْ يستمرَّ وسيسعى مثلكَ لإنهائهِ .
قالَ خالدٌ في حيرةٍ :
- أتعشَّمُ هذا .. أتعشَّمُ هذا .
في صباحِ اليومِ التالي تفاجأتْ علياءُ بخالدٍ جالسًا في ردهةِ بيتهما وهوَ يبدو غارقًا في تفكيرِ عميقِ فقالتْ لهُ :
- متى استيقظتَ ؟
قالَ خالدٌ :
- إنني لمْ أنمْ تقريبًا .
قالتْ علياءُ :
- لمَ كلُّ هذا القلقِ يا خالدٌ، ألمْ نتناقشْ في الأمرِ بالأمسِ ؟
قالَ :
- بلى، ولكنِّي لنْ أهدأَ قبلَ أنْ أنهيَ هذا الموقفَ يا علياءَ، فأنا أشعرُ بحرجٍ شديدٍ، كيفَ لمْ أتعرفُ إلى ابنِ عمي، بلْ واشتبكتُ معهُ في شجارٍ وصلَ بنا إلىَ الشرطةِ أيضًا .
قالتْ :
- هلْ فكرتَ فيما يجبُ فعلهُ ؟
قالَ :
- سوفَ أتوجَّهُ إلى منزلِ عمي وأحاولُ أنْ أُصلحَ الموقفَ .
علياءُ :
- هذهِ فكرةٌ جيدةٌ .
خالدٌ :
- حتى وإنْ كانتْ سيئةً، فأنا لا أملكُ غيرها .
وبالفعلِ توجَّهَ خالدٌ نحوَ بيتِ عمهِ الذي لمْ يرهُ هوَ الآخرُ منذُ سنواتٍ، بلْ إنهُ لمْ يعدْ يذكرُ متى كانتِ المرةُ الأخيرةُ التي حادثهُ فيها هاتفياً، وظلَّ يفكرُ في عذرٍ مقنعٍ يقدمهُ لعمهِ دونَ أنْ يهديهُ تفكيرهُ لشيءٍ ذي قيمةٍ .
قرعَ جرسَ البابِ بعدَ ترددٍ، كانَ قلبهُ يخفقُ بقوةٍ وهوَ يسمعُ وقعَ أقدامٍ تقتربُ منَ البابِ .
كانَ منْ فتحَ البابَ ولسوءِ حظهِ هوَ ابنُ عمهِ الذي بدا عليهِ الاندهاشُ الشديدِ في باديءِ الأمرِ، ثمْ ما لبثَ أنْ تحولتْ ملامحهُ لغضبٍ بدى جليًّا في صوتهِ و هوَ يقولُ :
- أنتَ ؟! ماذا تريدُ، وما الذي جاءَ بكَ إلى هنا ؟
ازدادَ توترُ خالدٍ حتى أنهُ كانَ يتحدثُ بصعوبةٍ بالغةٍ وهوَ يقولُ :
- كيفَ حالكَ يا هادي؟
قالَ هادي بحدةٍ :
- مالَكَ وحالي ؟ أنحنُ أصدقاءٌ أو ما شابهَ ؟! أخبرني ماذا تريدُ ؟!
قالَ خالدٌ بصوتٍ مرتجفٍ :
- هلْ .. هلْ عمِّي محمودٌ هنا ؟ إنني أرغبُ في رؤيتهِ .
تعجَّب هادي وقالَ :
- محمودٌ مَنْ ؟!
خالدٌ :
- أليسَ هذا منزلُ الاستاذِ محمودٌ عبدُ الكريمِ ؟
هادي :
- بلى ..هوَ .
قالَ خالدٌ :
- فأنا أرغبُ في رؤيتهِ ... أنا .. أنا خالدٌ ابنُ أخيهِ ... ابنُ عمكَ .
فتحَ هادي فمهُ وهَمَّ أن بقولِ شيءٍ ما، إلَّا أنَ صوتَ سيدةٍ عجوزٍ قاطعهُ قائلًا :
- مَنْ بالبابِ يا هادي؟
التفتَ هادي إلىَ صاحبةِ الصوتِ والتي كانتْ سيدةً في العقدِ الثامنِ مِنْ عمرها، كانتْ تسيرُ بخطواتٍ بطيئةٍ نحوَ خالدٍ وهادي الذي قالَ :
- لا شيءْ يا أمي .. إنَّ هذا السيدُ يريدُ..
قاطعهُ خالدٌ الذي تعرَّفَ المرأةَ العجوزَ على الفورِ ولمْ تمنعهُ الأعوامُ التي رسمتْ خطوطها العميقةِ على ملامحها مَنْ ذلكَ، إنها زوجةُ عمهِ التي لَمْ يرها منذُ سنواتٍ طوالٍ كما لمْ يرَ عمهُ فقالَ :
- ألا تذكرينني يا خالةُ ؟ أنا خالدٌ ابنُ أَخي زوجكِ، أنا ابنُ أخيهِ محمدٍ .
تفرَّستِ العجوزُ ملامحهُ لعدةِ ثوانٍ ثُمَّ قالتْ :
- خالدٌ .. أذكركَ بالطبعِ، كيفَ حالكَ يا ولدي ... تفضَّلْ .. تفضَّلْ .
وفتحتِ البابَ الذي كانَ هادي يسدهُ بجسدهِ لتدعوَ خالدًا للدخولِ دونَ أنْ تنتبهَ لذهولِ هادي الذي كانَ الرفضُ وعدمُ التصديقِ باديينِ على ملامحهِ، ولكنهُ على الرغمِ منْ ذلكَ لمْ ينبسْ ببنتِ شفةٍ .
أجلستْ العجوزُ خالدًا في غرفةِ الضيوفِ وقالتْ له :
- كيفَ حالكَ يا ولدي ؟ لكَ سنواتٌ طوالٌ لمْ تزرنا ولمْ تسألْ عنا .
والتفتتْ نحوَ ابنها قائلةً :
- إنهُ خالدٌ ابنُ عمكَ يا هادي .. إنكما لمْ تلتقيا منذُ ما يقربُ منَ العشرينَ عامًا، فقدْ كانَ خالدٌ ووالدهُ رحمهُ اللهُ يعيشانِ في الاسكندريةِ، وعندما عادا إلىَ القاهرةِ كنتَ أنتَ قدْ سافرتَ إلى خارجِ مصرَ بأكملها لعملكَ .
قالَ خالدٌ بخجلٍ :
- أنا بخيرٍ والحمدُ للهِ، أعلمُ يا خالةُ أنِّي قدْ قصَّرتُ بحقكمْ أنتِ وعمي وأبناءِ عمي، ولكنها مشاغلُ الحياةِ يا خالةُ، والحمدُ للهِ أنَّ الظروفَ قدْ ساقتني إلى لقائكمْ ثانيةً .. كيفَ حالُ عمي ؟ أهوَ نائمٌ أم مستيقظٌ ؟
قالتْ العجوزُ : إنهُ مستيقظٌ يا ولدي، و لكنَّهُ طريحُ الفراشِ منذُ ما يقاربُ السنةَ، و لا يغادرٌ حجرتهُ إلّا نادرًا .
زادَ ذلكَ مِنْ شعورِ خالدٍ بالحرجِ، فها هوَ عمُّهُ الوحيدُ الباقي على قيدِ الحياةِ طريحَ الفراشِ منذُ فترةٍ ليستْ بالقصيرةِ وهوَ يجهلُ ذلكَ تمامًا.
أردفتْ العجوزُ :
- إنه العمرُ يا ولدي . أنتَ تعرفُ الشيخوخةَ وأمراضَها .
قال خالدٌ : شفاهُ اللهُ وعافاهُ يا خالةُ، أرجوْ أنْ تستأذنيهُ كي أراهُ .
قالتْ العجوزُ : بالتأكيدِ ياولدي .. سيسعدهُ ذلكَ كثيرًا .
وهمَّت المرأةُ بالنهوضِ فأوقفها خالدٌ قائلا :
- قبلَ أنْ تقومي يا خالةُ .. أرجو أنْ أشرحْ لكِ ما حدثَ منذُ أيامٍ بيني وبينَ هادي .
كانَ هادي جالسًا في ركنِ الحجرةِ دونَ أنْ يتحدثَ، ولكنَّ ملامحهُ كانتْ جامدةً دونَ انفعالاتٍ تُذكرُ، وعندَما سمعَ خالدًا يُلَمِّحُ للمشاجرةِ رمقَهُ بنظرةٍ لمْ يفهمها خالدٌ للوهلةِ الأولى .
قالتْ المرأةُ : هادي ؟! ما الذي حدثَ ؟
كانَ منَ الواضحِ أنها لا تعرفُ شيئًا، فهلْ كانَ السببُ في ذلكَ أنَّ هادي لمْ يخبرها بالأمرِ أمْ أنها نسيتهُ بسببِ تقدمها في السنِ، فكبارُ السنِّ أمثالها ينسونَ الكثيرَ منَ الأحداثِ، لمْ يعرفْ خالدٌ كيفَ يتصرفُ، فلمْ يُرِدْ أنْ يخبرها أنهُ قدْ تشاجرَ معَ ابنها شجارًا انتهى بهما إلى مركزِ الشرطةِ ثمَّ إلى المحكمةِ بعدها، ولذلكَ قررَ أنْ يكذبَ عليها فبادرها قائلًا :
- لقدْ التقيتُ هادي بالأمسِ مصادفةً وقدْ تعرَّفني وأخذَ يذكِّرني بنفسهِ ولكنني لمْ أتذكرهُ إلّا بصعوبةٍ بالغةٍ بعدَ أنْ عدتُ إلى المنزلِ، وقدْ أحزنني ذلكَ كثيرًا وقررتُ أنْ آتيِ إلى هنا لكي أعتذرَ له ولكِ ولعمي .
أشاحتْ العجوزُ بيدها قائلةً :
- لا تشغلْ بالكَ يا ولدي، فالسنواتُ التي لمْ تريا بعضكما فيهنَ كُنَّ طوالًا بما يكفي لتتغيرَ ملامحكما .. لا تَلُمْ نفسكَ .
والتفتتْ نحوَ هادي قائلةً :
- لماذا لمْ تخبرني أنكَ التقيتَ ابنَ عمكَ يا هادي ؟ سيسعدُ ذلكَ أباكَ حتمًا .
غمغمَ هادي :
- لقدْ نسيتُ يا أمي .. كنتُ سأخبركِ حتمًا .
نهضتْ العجوزُ مِنْ مكانها وقالتْ :
- سأخبُر والدكِ بقدومِ خالدٍ لزيارتهِ .. دقائقُ وأعودُ إليكما .
التفتَ خالدٌ نحوَ هادي الذي كانتْ ملامحهُ قدْ بدأتْ في اللينٍ شيئًا قليلًا بفعلٍ كلماتٍ خالدٍ التي دلَّتْ على ذكائهِ وفهمهِ لتصرفِ هادي ورغبتهِ في عدمِ ازعاجِ أمهِ العجوزِ .
خالدٌ : أرجوْ أنْ نتجاوزَ ما حدثَ بيننا يا هادي .. لقْدْ كانَ تصرفًا خاطئًا أنْ تتطورَ الأمورُ بيننا إلى هذا الحدِّ حتى ولو لمْ نكنْ ابني عمومةٍ ، والخطأُ الأكبرُ ألَّا نتعرفَ بعضنا البعضَ .
قالَ هادي بصوتٍ منخفضٍ :
- أعتقدً أنكَ محقٌ، ولكنَّ ..
قاطعهُ خالدٌ :
- وأريدكَ أنَ تعلمَ أنني قدْ ذهبتُ إلى مركزِ الشرطةِ قبلْ أنْ آتيَ إليكمُ، وحرَّرتُ تنازلًا تامَّاً عنْ المحضرِ ومذكرةِ التحقيقِ التي تمَّتْ بيننا هناكَ، وأرجو منكَ مرةً ثانيةً أنْ ننسى كلَّ ما حدثّ .
وللمرةِ الأولى منذُ عرَفهُ خالدٌ، بدتْ ابتسامةٌ باهتةٌ على وجهِ هادي وهوَ يقولُ :
- حسنًا يا خالدٌ .. فلننْسَ كلَّ ما حدثَ .
كانَ مِنَ الواضحِ أنَّ هادي مِنْ ذلكَ النوعُ مِنَ البشرِ الذي لا يُبدي الكثيرَ مِنَ المشاعرِ تجاهَ الآخرينَ، وبرَّرَ خالدٌ ذلكَ لنفسهِ أنَّ ذلكَ قدْ يكونُ نتيجةً للسنواتِ الطوالِ التي عاشها هادي خارجَ الوطنِ، فربما تكونُ هي التي أكسبتهُ تلكَ الصفةِ .
لمْ يتوقفْ خالدٌ كثيرًا عندَ تلكَ النقطةِ، فقدْ سمعَ صوتَ زوجةِ عمهِ التي تدعوهُ للدخولِ إلى حجرةِ عمهِ الراقدِ في فراشهِ .
تألمَ خالدٌ كثيرًا عندما رأى ذلكَ الرجلَ الذي ذكَّرتهُ ملامحهُ بملامحِ أبيهِ الذي رحلَ منذُ سنواتٍ وقدْ غزاها المرضُ والألمُ، وتألَّمَ أكثرَ عندما لامَهُ ضميرهُ لعدمِ معرفةِ أحوالِ عمهِ الوحيدِ لسنواتٍ أنهكهُ المرضُ فيها وجعلهُ طريحَ الفراشِ .
كانتْ فرحةُ الرجلِ المسكينِ كبيرةً لرؤيتهِ ابنَ أخيهِ الذي لمْ يرهُ منذُ سنواتٍ طوالِ، وأخذَ يسألهُ عنْ حالهِ مراتٍ عديدةً ويتعرَّفُ إلى أحوالهِ وحياتهِ، كانَ يسألُ أسئلةً كثيرةً للدرجةِ التي لمْ تُمكِّنْ خالدًا مِنْ أنْ يلاحقهُ بالإجاباتِ، حتى أنَّ زوجتهُ قالتْ له :
- تمهَّلْ قليلًا يا عزيزي .. لا تُنهِكْ نفسكَ كثيرًا بالحديثِ .. لقدْ عرفَ خالدٌ طريقَ بيتنا الآنَ وسيأتي كثيرًا لزيارتنا ... أليسَ كذلكَ يا خالدٌ ؟
قالَ خالدٌ بصوتٍ حملَ ارتياحًا عجيبًا :
- بالتأكيدِ يا خالةُ ... بكلِّ تأكيدٍ .
وتوجَّهَ نحوَ بابِ الغرفةِ ليغادرها فاستوقفهُ عمُّهُ قائلًا بصوتٍ حملَ الكثيرَ مِنَ الرجاءِ قائلًا :
- لا تنسني يا خالد، ولا تتركْ أخاكَ هادي يا ولدي .
قالَ خالدٌ بصوتٍ غلبهُ التأثرُ الشديدِ :
- لا تقلقْ يا عمِّي .. سيتغيرُ كلَّ شيءٍ .
وودَّعهمْ جميعًا ثُمَّ غادرَ المنزلَ .
عندما غادرَ خالدٌ بيتَ عمهِ ونزلَ إلى الشارعِ المزدحمِ، كانَ يساورهُ شعورٌ غريبٌ لمْ يألفهُ منذُ زمنٍ طويلٍ، لمْ يكنْ يعرفُ ما هوَ بالتحديدِ .. أهوَ شعورٌ براحةِ الضميرِ لأنهُ قدْ زارَ عمهُ المريضِ الذي لمْ يراهُ منذُ سنواتٍ طوالٍ، أمْ أنهُ شعورٌ بالسعادةِ لإحساسهِ باتساعِ دائرةِ عائلتهِ مرةً أخرى، أمْ أنهُ شعورٌ بالراحةِ لإنهائهِ مشكلتهُ القانونيةِ معَ ابنِ عمهِ وهوَ الذي لا يحبُّ المشكلاتِ أيّاٌ كانَ نوعها .
هزَّ خالدٌ كتفيهِ في لا مبالاةٍ، لمْ يكنْ يعنيهِ في تلكَ اللحظةِ البحثُ عنْ سببِ سعادتهِ، ولكنَّ الذي كانَ يعنيهُ هوَ الشعورُ بالسعادةِ ذاتها .
عندما وصلَ خالدٌ إلى بيتهِ ورأتهُ زوجُهُ منفرجَ الأساريرِ قالتْ :
- طمئِنْ قلبي، كيفَ مرَّ اليومُ ؟
قالَ خالدٌ :
- على خيرِ حالٍ .
علياءُ :
- ألنْ تقُصَّ عليَّ ما حدثَ ؟!
قالَ خالدٌ : بالتأكيدِ، ولكنْ أولًّاً أخبريني، ألا تعرفينَ أينَ المفكرةُ القديمةُ التي بها أرقامُ الهواتفِ ؟ المفكرةُ ذاتُ اللونِ الأزرقِ .
علياءُ :
- إنها في درجِ مكتبكَ، ولمَ تسألُ عنها ؟
قالَ خالدٌ وهوَ يتوجَّهُ نحوَ غرفةِ المكتبِ :
- أريدُ بعضَ الأرقامِ الهامةِ التي بها ... آه ... وأريدُ منكِ أنْ تتحضري، فقدْ يكونُ لدينا زيارةٌ نقومُ بها اليومَ أو غدًا إنْ شاءَ اللهُ .
علياءُ :
- زيارةٌ ؟! مَنْ سنزورُ ؟
خالدٌ :
- لا أعلمُ حتى الآنَ .. سأخبرُكْ قبلها حتمًا .
ودخلَ الغرفةَ تاركًا زوجتهُ في حيرتها .
فتحَ خالدٌ درجَ مكتبهِ ليخرجَ المفكرةَ التي كانتْ تحتَ كومةٍ منَ الأوراقِ والمذكراتِ ، وتصفَّحَ أوراقها ليجدَ أرقامَ العديدَ منْ أقاربهِ الذينَ انقطعتْ أخبارهمْ عنهُ مدونةً بها .
ترددَ خالدٌ للحظاتٍ ثُمَّ قالَ :
- هيا يا خالدٌ .. لقدْ بدأتَ بالفعلِ فلا تجعلْ همتكَ تذهبُ بعيدًا .
و رفعَ سماعةَ الهاتفِ ليطلبَ أولَ الأرقامِ المدونةِ في مفكرتهِ .