السيرة البشرية لكائن اسمه الرجل

2021-09-09

اعتاد الإنسان منذ أول ظهوره على هذه الأرض البسيطة أن يتكئ على الحيوان عائنا له  في تلبية متطلبات بقائه خاصة إذا كان هذا الحيوان بكامل عنفوانه وقوته في أول حياته، وحالما يعجز هذا الحيوان الذي يشاركنا العيش؛ يطمع البشر في أخذ ماتبقى من عمره ليتوق البقاء في الحياة على شدة انهاكها وويلاتها في مراحل العمر الأخيرة .

ومن حكايا آبائنا وأجدادنا؛ فقد قيل لصديق الإنسان الكلبِ الوفيّ : ستحرس منازل بني البشر  بأمانةٍ ووفاء دون مقابل سوى فضلة طعام يتركها لك مع وعاء ماء بجانب، وستكون أفضل صديق للإنسان، وسنعطيك حياة طولها ثلاثون عاماً .

قال الكلب رافضاً  :

ثلاثون سنة كثيرة عليَّ، يكفيني فقط خمسة عشر عاما ... وهكذا عمّر هذا الوفيّ خمس عشرة سنة وفق ما تمنّى .

وقيل للقرد الشبيه الأقرب للإنسان : ستتأرجح من غصن لغصن تضاهي حركات البهلوان، وتقوم بعمل الخدع لإضحاك الآخرين، وسوف تعيش حياة طولها عشرين سنة بالتمام والكمال .

قال القرد متعجبا :

عشرون سنة كثيرة، أريد فقط عشر سنوات ... فتمّ تلبية طلبهِ  .

وقيل للحمار عائن الإنسان بحمله وثقاله :

ستعمل دون تذمّر من طلوع الشمس لمغربها وستحمل فوق ظهرك أحمالاً ثقيلة، وستأكل الشعير وما بقي من فضلات الموائد وقشور فواكه الطعام، ولن تتمتع بأي ذكاء سوى معرفة طريق الذهاب والإياب بمهارة، وستعيش حياة طولها خمسين سنة .

قال الحمار : سأكون حماراً لا أتعب من حمل كل ما يريده مالكي الإنسان، ولكن خمسين سنة كثيرٌ جداً، أريد فقط عشرين سنة ... فكان له ما يريد من سنيّ الحياة وفق ما رغب .  

وقيل للإنسان الشّرِه الطامع بعمر الحياة مهما تفاقمت شرورها وقلّت مسرّاتها :

أنت المخلوق الأكثر ذكاءً على وجه الأرض وستستعمل ذكاءك لتجعل منك سيداً على باقي المخلوقات، وتعيش حياةً جميلة لعمارة الأرض وسوف تعيش حياة طولها عشرين سنة كلها طفولة مدللة وفتوّة وشباب يانع بلا مسؤوليات وأشغال شاقّة  .

فقال الإنسان محتجّاً وطامعاً بسنوات أخر :

هل سأكون إنساناً لأعيش عشرين سنة فقط ! ؟  ولمَ الإجحاف بي وتقصير عمري إلى هذا الحدّ، هذا قليل جداً !! أريد الثلاثين سنة التي لم يرغب بها الحمار، والخمسة عشر سنة التي رفضَها الكلب، والعشر سنوات التي عزف عنها القرد .

فتمّ تلبية طلبه، وكان له ما أراد .

ومنذ ذلك الزمان والإنسان يعيش عشرين سنة كإنسان طليق وسعيد في طفولته وصباه وفتوته وقبيل زواجه .... حتى يتزوج بعدها ... يعيش ثلاثين سنة كالحمار ... يكدّ ويعمل من طلوع الشمس لمغربها ويحمل الأثقال على ظهره .

وعندما يكبر الأبناء يعيش خمسة عشر عاماً كالكلب؛ يحرس المنزل ويغلق الأبواب ويراقب الكهرباء ويأكل أقل الطعام أو من الفضلات التي يتركها أبناؤه بعدها؛ وعندما يشيخ ويتقاعد يعيش عشر سنوات كالقرد؛ يتنقل من بيت لبيت ومن إبن لآخر أو من بنت لأخرى ويتحيّن الفرص القليلة ليزور صديقته الوحيدة الجميلة ببدانتها المحببة العائشة بمفردها بعد أن تركها نسلها واقترنوا بعوائلهم .

 وحينما يتحلق نسل أولاده حوله تراه يعمل الخدع ويسرد الحكايات لإضحاك أحفاده وحفيداته ويلاعبهم بعد أن  تغيب عنه رفيقة العمر إلى مثواها الإخير  بانتظار أن يلحقها بعد فترة وجيزة .

تلك هي سيرة حياة الرجل في حياته وأولهم أنا الذي أكتب هذه الحالات والظواهر التي مررت بها .

هو ذا عمري الطويل الآن الذي تمنيته وقد سلبتُه من تلك الحيوانات التي تشاركني الحياة، فهي رحلت عني وودّعت هذا الشيخ العجوز الذي يكتب سيرته الذاتية في أذيال العمر الأخيرة .

 

jawadghalom@yahoo.com

جواد غلوم

خريج كلية الآداب/جامعة بغداد / قسم اللغة العربية لعام 1974-1975. عمل في التدريس بعد التخرج لغاية العام/1990 وفي الصحافة وهو طالب في الجامعة ونشرت في معظم الصحف والمجلات وقتذاك. سافر إلى خارج العراق بسبب الاضطهاد وظروف الحصار وعمل خلالها أستاذا في الأدب العربي/ ليبيا. عاد للعراق سنة/2004 وينشر في العديد من الصحف الورقية والالكترونية. ولديه اربع مجموعات شعرية مطبوعة وكتابان بعنوان / مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار، و قطاف من شجرتَي الادب والفن وهي مقالات في النقد الادبي .

jawadghalom@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved