خارطة الطريق باتجاه الإيمان السليم

2022-03-03

" وفق ما رسمَها لي أستاذي الأول وأنا في بدء عهدي بالتعلّم متذكرًا مناسبة عيد المعلم في الاول من آذار الجاري  "

في فتوتي حينما بدأ عقلي ينضج شيئا فشيئاً؛ عرفتُهُ أستاذاً محاضراً لبقاً في حلقات الدرس التي كانت تلمّنا في باحة أحد جوامع  النجف؛ منبتي ومحتدي ومولدي، كان خطيباً مفوّهاً، ناصحاً مقنعاً ثرِيّ العقل والخلُق .

لم أسمعه يوماً يذكر اسم الله، أو يعظ عنه بل كان يهدينا إلى مسلك لا وعورة فيه ولا عثرات توصلنا إلى الله الرؤوف الرحيم الحاني؛ لا الله القاسي القلب الذي يهيئ جهنم ويستخدم الزبانية ليقودوا ابن آدم إلى حتف حارقٍ ولهيب أبدي يصلى جمراً ووقْداً وسعيراً لا يخمد .

كان يرشدنا إلى طريق يقودنا إلى ذواتنا كي نستنير ونحن نبترد من إيمان يثلج قلوبنا ويروينا يقيناً فنشعر بهدأة وسكينة وراحة بال وسعادة ونحسّ يقيناً بأن الله كلّه حنوٌ ورأفة وحنان يضاهي آلاف المرات حنوّ الوالدين على نسلهما  .

كشف لنا الإستنارة الحكيمة وأحسسنا أننا نعيش حالة من اليقظة لا نرى فيها حواجز وحدوداً وعراقيل بحيث شعرنا اننا أحباب الله وقد حبانا كل هذا الكون الجميل لتوسيع مداركنا العقلية ونرى بأم أعيننا مدى عظمة الإله القدير وإننا غدونا جزءاً من هذا الفضاء الشاسع بهذه المعمورة الصغيرة التي نعيشها شعوباً وقبائل يجب أن تتحابى  لتشيد وتعمّر لا أن تتخاصم وتبيد وتدمّر .

لم يزعم أنه يعرف إلهاً آخر مشاركاً في العظَمة أو تأليه بَشَرٍ يتصف بصفات الجبّار العظيم، احتراماً لعظمة الإله واعترافاً بقصورنا، لكنه يعرف الطريق إليه .

وأهم خرائط هذه الطريق، حسب تعاليم أستاذنا الشيخ، هي تلك التي تتبعها بعفوية ونوايا صادقة بعيدة عن أذى الناس وإخافتهم وإيقاع الفزع والخوف في نفوسهم  .

تعلَّمت من معلمي عبارة كان يقولها دوما وهي : أن دينك يكمن في صمتك، وليس في وعظك؛ وإيمانك يكمن ويتجلى في سلوكك وليس دائما في مسجدك او حسينيتك أو ايّ معبد كان .

هذا الرجل  ليس نبيّاً ولا مبعوثاً من السماء، بل هو معلم بسيط الهيأة والمظهر يرتدي الجبّة وفوقها العِمة البيضاء البسيطة غير الثقيلة، لم تؤثر في عقله الراجح، فهو مرشد مستنير ومُنير لأن الإنسان عندما يستنير ويضيء عقله إيماناً صحيحاً بمصابيح واضحة كاشفة سيمتلك حتما القدرة على أن  يُنير الطريق السويّ لطلبته ومريديه .

تعلمت منه أن الشفقة هي أم الفضائل، فالمُشفق الواعظ محال أن يؤذي ويُخيف الناس ويرجف نفوسهم وعقولهم فيصيبهم الضعف والوهن والخوف من إله حانٍ رحيم بعباده .  

ومن أهم ما تعلمت منه أن الألم يوحدنا جميعاً، وهو ليس خيارنا، وعلينا أن نحوّل هذه الآلام إلى تجربة نستفيد منها في مسار حياتنا دون أن ننعطف بها إلى مدارك البؤس واليأس والتعاسة من قبل بعض الواهنين الضعفاء  .

تعلمت منه أن أصادق الكل، ولا أعادي أحداً مهما بلغت منه السوءات . وأن أعترف بأخطائي كبرتْ أم صغرت وأعتذر فيما لو أضرّت بالآخرين مثلما أبحث عن مبررات لأخطاء الآخرين فيما لو بدرتْ منهم قصداً او جاءت بعفوية .

تعلمت منه أن أقلل من توقعاتي، فيدهشني كل جميل قد أصدفه في الحياة وقد أتقبل كل قبيح يلوح لي في مسيرة العمرلا تمسكاً به بل أحاول تجاوزه أو حتى تغييره ان كان بمستطاعي ذلك .

وطوال مكوثي معه لم يذكر ما كان شائعاً في محيطنا الديني بشأن تدوير الخطاب الديني التقليدي المتخم بالميثولوجيا والأعراف القبلية والشعبوية والسرديات المضطربة غير الخاضعة للتحقيق والتدقيق مثلما كان يلوك بها بقية أقرانه ومجايليه من الوعاظ الذين كانوا يرددون تلك الأدبيات المتداولة على ألسنة البقية الباقية ممن يسمونهم رجال الدين  وطرحها على الملأ على علاّتها وغالبيتها سرديات غير مقنعة لذوي العقل الراجح .

مثل هؤلاء قد لا نجدهم اليوم إلاّ نادراً وهم مَن يدلّنا على اليقين الديني السليم  لا الإتباع العقائدي السقيم، وهذا هو الفرق بين العقل المرشد الناجز والعقل المتوّه العاجز .

 

جواد غلوم

خريج كلية الآداب/جامعة بغداد / قسم اللغة العربية لعام 1974-1975. عمل في التدريس بعد التخرج لغاية العام/1990 وفي الصحافة وهو طالب في الجامعة ونشرت في معظم الصحف والمجلات وقتذاك. سافر إلى خارج العراق بسبب الاضطهاد وظروف الحصار وعمل خلالها أستاذا في الأدب العربي/ ليبيا. عاد للعراق سنة/2004 وينشر في العديد من الصحف الورقية والالكترونية. ولديه اربع مجموعات شعرية مطبوعة وكتابان بعنوان / مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار، و قطاف من شجرتَي الادب والفن وهي مقالات في النقد الادبي .

jawadghalom@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved