عباس علام كاتب قصة
تعرفت على عباس علام منذ سنوات طويلة جدا، فقد كنت مولعا بجمع المجلات القديمة ( الهلال، المختار .. الخ ) من باعة الكتب القديمة في شارع النبي دانيال.فقرأت له قصة منشورة بمجلة الهلال عام 1947- نفس العام الذي ولدت فيه - ونسيت اسم الكاتب، لكنني ظللت أذكر القصة وأحكيها لمعارفي - في ذلك الوقت - وكأنها حادثة مهمة تستوجب أن أحكيها. كانت القصة بعنوان " صراع الروح والجسد "، تحكي عن أرملة تجاوزت الثلاثين بسنوات قليلة تحب صديق ابنها الشاب ولا تستطيع أن تبوح له، كما أن التقاليد القاسية تمنعها من أن تتخذ أى موقف، فكتمت في نفسها حتى ماتت دون أن يعلم سرها أحد سوى طبيب الأسرة الذي يعرفها منذ أن ولدت .
ويضيع مني عدد الهلال المنشور به القصة، ثم أعود ثانية إلى باعة الكتب القديمة في شارع النبي دانيال أبحث من جديد عنه، فتعلق اسم عباس علام بذهني، واكتشفت أنه كتب بعض أفلام محمد عبد الوهاب: يحيا الحب وممنوع الحب ولست ملاكا.
نبذة عن حياة عباس علام
* ولد عباس علام بمدينة بورسعيد في يناير/كانون الثاني 1892، وفي ذلك اليوم تولى الخديو عباس حلمي الحكم فسماه أهله عباس.
* عمل بمصلحة البريد، ثم حصل على البكالوريا وهو يعمل وانتقل إلى وزارة الداخلية بالقاهرة حيث عمل بها بقية حياته، وانتسب في كلية الحقوق في الجامعة الأهلية واستمر في دراسته إلى السنة الثالثة، لكن الكتابة للمسرح شغلته عن إتمام دراسته.
* تدرج في وظائف وزارة الداخلية من وظيفة كاتب آلي إلى مدير إدارة مجالس المديريات، ومضى طوال خدمته، تقريبا، في القاهرة، فيما عدا سنوات قليلة قضاها في مديرتي أسوان والغربية.
عباس علام والمسرح
كتب عباس علام تسع عشرة مسرحية على مدى خمسة وثلاثين عاما تقريبا من 1913 - 1947 بدأها بمسرحية "أسرار القصور"، التي مثلها الشيخ أحمد الشامي وفرقته عام 1915. ويقول عباس علام في مقدمة خطية للمسرحية عام 1946 "أقول هذا للتاريخ وليعلم ولداي أن والدهما هو أول من مصّر المسرح، وكان المسرح قبله إما أجنبيا معربا، أو عربيا."
ومن أهم مسرحياته: "عبد الرحمن الداخل "، و" باسم القانون"، و"كوثر"، و" توتو" ومسرحية " ألا مود" التي سنتعرض لها باهتمام أكثر، فقد كتبها بالعامية عام 1919 أيام كان مبعدا وظيفيا في الصعيد وحققت نجاحا كبيرا. المسرحية مهداة إلى الآنسة " ف. ط " التي رسمت له صورة كاريكاتورية ساخرة، ولما كان لا يجيد الرسم، فرد عليها بهذه المسرحية بعد أن رسمها (مسرحيا) في صورة كاريكاتورية يضحك منها الجميع. و"ف. ط" الحقيقية كانت مثالا للجمال والرشاقة والأناقة وسلامة الذوق ورقة الشعور وسمو الأخلاق، مغرمة بالفنون جميعا؛ خاصة الرسم والتمثيل وكانت تسكن في منزل بشارع سامي بالقرب من ميدان لاظوغلي، كانت موضع تقدير جميع أهل الحي، خاصة شلة الأدباء الشبان التي تتردد على أخيها الأكبر وتمضي السهرة عنده في أغلب الأيام؛ إما في المندرة أو في الحديقة. وكان من بين هؤلاء عباس علام، ومحمد تيمور، وعبد الحميد حمدي (صاحب مجلة " السفور") ومحمود عزمي (مترجم غادة الكاميليا) وحسن رسمي (مفتش الداخلية، وخريج جامعات انجلترا) وكان الكل يعجب بها ويحبها حبا جما أفلاطونيا من طرف واحد، إذ لا يجرؤ منهم أن يحبها غير هذا الحب ولا يأمل في أن تبادله الحب.
ظهور فيكتوريا موسى في حياة عباس علام
قامت فيكتوريا موسى، بدور سنية المعبرة عن شخصية " ف. ط " في المسرحية. فعندما رآها عباس علام على المسرح ذكرته بهذه الفتاة التي أحبها في صمت، والتي لم يستطع أن يعبر لها عن هذا الحب، فانتقل حبه لـ "ف. ط" إلى فيكتوريا موسى.
أحب عباس علام فيكتوريا موسى حبا اشتهر في الوسط المسرحي كما اشتهر حب قيس لليلى، كان يطلق عليها " الإلهة إيزيس" ويسمي نفسه " عبد إيزيس". كانت الحركة المسرحية كلها والجمهور والنقاد يؤكدون أن فاطمة اليوسف هي أهم ممثلة مسرح في ذلك الوقت إلا عباس علام، فهو يراها أهم ممثلة في مصر، بل هي الفن نفسه. فقد منحت لجنة توزيع المكافآت المسرحية الجائزة الأولى لفاطمة اليوسف، والجائزة الثانية لفيكتويا موسى، فكتب عباس علام "فإن كانت اللجنة قد ظلمت فيكتوريا هذا الظلم الشنيع وأجلستها في غير المكان الذي أعدته لها قدراتها وبراعتها وفنها فإني أروي قصة لا يعرفها غير القليلين، قصة تفهم منها وتفهم منها اللجنة، لماذا أنا متعصب لفيكتوريا موسى، ولماذا أعتبرها الفن في مصر، ولماذا أصبح عندي فيكتوريا الفن، بل ولماذا اعتبر كل ما عداها " بوش".
هذا حديث إنسان مجنون بحب إنسانة لا يرى غيرها، فهو يؤكد في قصته الطويلة أن فيكتوريا في تمثيلها أقوى من كل الممثلات في مصر وأقوى من كتاباته أيضا، فهي السبب في نجاح مسرحياته، ولولاها ما حدث هذا النجاح.
ويقول عباس علام في رسالة له لصديق " تعرف أني ضحيت بكل شيء في سبيل فيكتوريا الفن، ضحيت بصحتي, وضحيت بصداقة الكثير من الناس لي، وضحيت بجزء من قواي العقلية. أجل، فإن عقلي الآن ليس هو عقل عباس علام، وضحيت بكثير من اعتبار الناس لي، فقد أصبحوا يشفقون علي، والشفقة لا تكون إلا من القوي للضعيف."
كان عبد الله عكاشة يعرف مدى حب عباس لزوجته فيكتوريا، فاستغل هذا الحب لصالحه، فعباس كان كاتبا مهما في ذلك الوقت، وكان من الممكن أن يترك فرقة عكاشة، ويقدم أعماله الناجحة لفرق أكثر جودة وشهرة. لكن حبه لفيكتوريا شده لهذه الفرقة.
واستغل عبد الله عكاشة هذا الحب أحقر استغلال، فكان يدفع زوجته لكي تؤثر على عباس لكي يغير فصولا من المسرحية لصالح عبدالله عكاشة، فيطيل من حجم دوره في المسرحية.
أما دور فيكتوريا موسى، فعباس علام ليس في حاجة إلى واسطة، فهو يطيل في دورها ويعطيها كل اهتمام دون دافع أو وسيط.
كان يعرف عبدالله عكاشة أن عباس علام يحب زوجته ومجنونا بها، فلم يعترض، وإنما استفاد من هذا الحب؛ لدرجة أنه كان يجعله يحمل الأشياء التي يشتريها هو وزوجته من السوق، وينقلها لهما إلى البيت.
كان أحد أصدقاء عباس علام يتمثل دائما في علاقته بفيكتوريا وعبد الله زوجها بما قاله الشاعر " ولابد للصياد من عشرة الكلب."
ويجيب عباس على هذا قائلا " إنني ما كنت يوما صيادا، ففيكتوريا هي ابنتي، إذن عبد الله هو زوج ابنتي، ويجب أن أواري عيوبه وأخفي سيئاته إكراما لابنتي."
لكن للأسف، فإن فيكتوريا لم تكن سوى بوق ينفخ فيه عبدالله فيسمعك مختلف الأصوات، وآلة يحركها عبدالله فتعمل بمحض مشيئته، فهي لا إرادة لها مطلقا.
ويصف عباس عبد الله هذا بصفات بشعة جدا إلى أن يقول " بل لقد نظلم الثعبان إذا شبهناه به، فالثعبان لا يؤذي إلا من آذاه. أما عبد الله فلا يؤذى إلا من ينفعه، ولا يبغض إلا من يحسن إليه، وكلما أغدقت عليه عطاياك، وكلما حبوته بفضلك، وكلما زدته من خيرك؛ تكاثر بغضه لك وعظمت نقمته عليك."
فيكتوريا موسى
مَنْ هي فيكتوريا موسى؟
هي ممثلة يهودية الأصل كأغلب من سبقها من ممثلات لمعت أسماؤهن في عالم المسرح العربي مثل: ميليا ديان، وابريز استاني، ونظلة مزراحي، واستر شطاح، وغيرهن.
أسلمت فيكتوريا وتزوجت عبد الله عكاشة، مدير فرقة عكاشة، الذي رآها في حفلة مدرسية فأعجب بها كفتاة وكممثلة فأغراها، وكان عبد الله عكاشة وقتها يغني ويمثل أدوار الفتى الأول في فرقة عكاشة، وكانت هي وديعة منطوية على نفسها قليلة الاختلاط.
وتقول عنها فاطمة اليوسف في كتابها " ذكريات " عندما تعرضت للحديث عن فرقة عكاشة "وكانت بطلة الفرقة سيدة يهودية اعتنقت الإسلام وتزوجت الأستاذ عبد الله عكاشة مدير الفرقة واسمها فيكتوريا، وكانت جميلة تجيش بالعاطفة، لولا عيب كبير فيها، إذ كانت، لسبب متصل بحنجرتها، لا تستطيع أن تضحك بصوت عال أبدا، فإذا كان دورها يقتضى أن تضحك في المواقف؛ وقفت ممثلة أخرى وراء الستار وتضحك نيابة عنها في هذا الموقف."
يترك عباس فرقة عكاشة وفرقة فيكتوريا موسى التي أسستها مع زوجها بعد اختلافه مع أخويه، بعد أن ضاق بتصرفات زوجها عبد الله معه، فتضطر فيكتوريا إلى أن تعمل في فرقة رمسيس، ممثلة صغيرة بلا جمهور وبلا مسرح يحمل اسمها.
هذه هي قدرات فيكتوريا موسى في التمثيل، لكن عباس لحبه لها يراها أكثر من ذلك بكثير. المهم أن فيكتوريا موسى لم تحتمل هذا، فقد أصابتها حالة جنون أو هستريا وهى تمثل، أو تؤدي " بروفة " الأدوار، فخرجت على الدور، وخرجت عن وعيها وأخذت تهذي، وخرجت من المسرح فلم تعد إليه بعد ذلك، وكان هذا هو آخر عهدها بالتمثيل.
علاقة طلعت حرب بفرقة عكاشة
ألف طلعت حرب في عشرينيات، وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين شركة مساهمة عرفت باسم " شركة ترقية التمثيل العربي" ، ثم أعاد بناء مسرح حديقة الأزبكية على الطراز العربي، وشكل فرقة تمثيلية كبرى وضع على رأسها أولاد عكاشة (عبد الله وزكي وعبد الحميد(.
كلما قرأت عن هذه الفترة اندهشت، كيف يترك طلعت حرب الفرق الكبيرة المشهورة مثل مسرح رمسيس لصاحبه يوسف وهبي بما له من مكانة ومقدرة، وفرقة نجيب الريحاني، وفرقة فاطمة رشدي وزوجها المخرج الكبير عزيز عيد، وفرقة علي الكسار وغيرها، ويلجأ إلى ثلاثة يحذقون كل شيء إلا المسرح تحكى فاطمة اليوسف عن فرقة عكاشة بعد أن انضمت إليها:" وجدت في الفرقة الجديدة جوا من الفوضى والارتجال لم أألفه أثناء وجودي مع أستاذي عزيز عيد، لم يكن هناك إخراج دقيق وبروفات مضنية ولا أي شيء من هذا القبيل، كان كل ممثل يحفظ دوره في بيته، ثم يصعد ليلة التمثيل إلى خشبة المسرح ليمثل كما يشاء، وكانت الفرقة مازالت تتعثر في روايات سلامة حجازي القديمة، ويقدم معها شيئا اسمه الفصل المضحك، يخرج فيه على المسرح ممثل وممثلة يرتجلان التهريج والحركات المضحكة المبتذلة حسب الظروف، ولم يكن هذا كله من الفن في شيء "
.." الأمر الأهم أن أسرة عكاشة (زكى وعبد الله وعبد الحميد) كانوا يتمتعون بدرجة عالية من ثقل الدم، يؤكدها كل من كتبوا عن هذه الفترة.
فيحكي يوسف وهبي في كتابه " عشت ألف عام " عن فرقة عكاشة : "ومن النوادر التي أسمعها في ذلك الوقت، أن الاقتصادي طلعت حرب باشا دعا لحضور المسرحيات الدرامية على مسرح الأزبكية الأديب الكاتب الساخر اللامع الشيخ عبدالعزيز البشري.
وكان زكي عكاشة بطل الفرقة يلعب دور رجل فقير معدم يرتدي ثيابا مهلهلة منحها له الكرماء، إلا أن زكي كان يضع في خنصره خاتما من الألماظ البرلنتي الضخم، ظل يزغلل به أعين الجمهور أثناء التمثيل. ولما انتهت المسرحية واصطحب طلعت حرب الأديب البشري إلى الكواليس لتهنئة زكي عكاشة بادره الشيخ البشري بالسؤال:
ـ طيب يا أستاذ زكي مادمت لابس هلاهيل جبت الخاتم الألماظ ده منين؟
فأجاب زكي في بجاحة: وفيها إيه يا أخي اللي شحت منه الهدوم كان رجل كريم.
وحدث في مسرحية أخرى، أن وقف الممثل عبد الله عكاشة على المسرح في مسرحية محزنة وبيده زجاجة سم ناقع، والتفت إلى الجمهور وصاح:
ـ أنا حاشرب القزازة دي كلها علشان أموت على طول.
فصاح عبدالعزيز البشري وقد كان يجلس في مقصورة بالمسرح:
ـ لأ، خلي شوية لأخواتك زكى وعبد الحميد.
ما الذي يرمي رجل عظيم مثل طلعت حرب أسس بنك مصر وشركاته ومنها شركة مصر للتمثيل والسينما، وأسس استوديو مصر، أن يعتمد على هؤلاء الذين لا يجيدون التمثيل، ويتمتعون بثقل الدم؟
يدّعي البعض أن طلعت حرب كان على علاقة بفيكتوريا موسى ومن أجل جمال عينيها أنفق على هذه الفرقة من دون باقي الفرق المهمة في ذلك الوقت، لكن هذا الادعاء لا يستند إلى قرائن تؤكده، فالفترة التي أنفق طلعت حرب على فرقة عكاشة كان المهيمن عليها زكى عكاشة وليس عبد الله عكاشة زوج فيكتوريا. فكل من كتب عن هذه الفترة أكد بأن زكي عكاشة استغل إعجاب طلعت حرب به، وتعالى على أخويه، مما دفع عبد الله وزوجته أن يتركا له الفرقة ويؤسسا فرقة خاصة باسم فيكتوريا موسى، ولو كان اهتمام طلعت حرب بهذه الفرقة من أجل جمال فيكتوريا موسى لكان عبد الله، زوجها، هو المسيطر والمهيمن على الفرقة، ولكان استغل عبد الله هذا الحب، لنيل مكاسب كبيرة جدا من طلعت حرب كما فعل مع عباس علام.
مصطفى نصر ـ الإسكندرية