أخرج سيجارته، أشعلها ثم قام ليأتي بشايه، وأوصى بشاي لنا جميعا.
كنا قد انتهينا من تناول العشاء ،وجلسنا - كعادتنا كل مساء - في مطعم الفندق الذي نقيم فيه طوال أيام المؤتمر.
أرتاح لمرافقته فهو خفيف الظل ، يتحدث طوال الوقت حديثا يدعو للضحك، قلت بصوت مرتفع : إنني أحرص على أن أشاركه مائدته في الإفطار والغداء والعشاء، فقال صديق من مائدة قريبة : ما كل هذا الحب ؟!
قلت : لا ليس حبا ، وإنما مصلحة ، فهو يأتي لنا بالكثير من الطعام.
وضحكنا، فهو حقا يقوم قبل أن يأتي العاملون بالمطعم بتقديم الطعام، ويعري الحلل، ويغرف الطعام لنا ، وعندما يحددون ثمرة برتقال أو يوسفي لكل منا ، يسرع ويأتي بالمزيد دون أن يلحظه العاملون في المطعم .
جاء الساقي ووزع الشاي علينا، ودارت الأحاديث التي يكون هو بطلها كل ليلة، يتحدث في أمور عديدة، عن عبد الناصر وعن السادات ومحمد حسنين هيكل ، ويعلو صوته ويتحدث بحماس، فيقول له صديق: وطي صوتك شوية ، الناس بتبص علينا.
نعرف أنه يشرب من زجاجة مبططة ، يضعها في جيب جاكتته، ولا ندري متى يفعل هذا، فلم نره يفعلها ولا مرة واحدة .لكن تصرفاته تكشف عن هذا .
كان يتحدث مع صديق لنا ، يحكي عن شخصية مهمة اتصلت بأسرته، لا أدري لماذا، قد يكون عن طريق المصاهرة ، والد خطيب ابنته مثلا ، المهم أنه حكى بأن زوجته قالت في جلسة عائلية عن زوجها : بأنه مؤلف ، تنشر الصحف صورته أحيانا، وتنشر قصصه ومقالاته.
فقال الرجل المهم: وتكسب كثيرا من هذه المهنة ؟
فقال: لا، أنني أدفع من جيبي ، أصرف على طبع الكتب.و.....
فقاطعه الرجل مندهشا :
وإيه إللي رماك على كده؟
هواية.
شرد الرجل كثيرا ؛ حتى ظنه قد نسى الموضوع ويفكر في أشياء أخرى ، لكنه فوجئ به يقول:
ممكن الدولة تدفع لك مقابل ذلك ؟
ممكن ، في صورة مكافأة تفرغ.
كم في الشهر ؟
حسب الواسطة. إللي واسطته كبيرة يأخذ ألف جنيها، واللي واسطته نصف نصف يأخذ 850 جنيها، واللي واسطته أقل يأخذ 650 جنيها .
مط الرجل شفتيه، فهذه مبالغ لا قيمة لها عنده ، فهو يلعب في الملايين،قال:
- دعنا من هذا ، ما الذي يمكن أن تدفعه الدولة أيضا ؟
جوائز سنوية ،تمنح للكتاب والفنانين.تبدأ بالتشجيعية، وتنتهي بجائزة مبارك.
ما الذي يناسبك فيها ،التشجيعية؟
لا، لقد كبرت عليها، الذي يناسبني جائزة التفوق.
مل الحاضرون الحديث في الأدب والجوائز ، فانصرفوا عنهما ، وتحدثوا في أشياء أكثر لذة، لكن الرجل المهم كان متعاطفا مع زميلنا ، ربما أحس بالشفقة نحوه، فكيف يعمل ويتعب ثم يدفع من جيبه ؟!، لابد أن يتخذ ما له من معارف واتصالات لكي يأتي له بجائزة تدر عليه مبلغا معقولا. قال:
أسبوع ، وسأتصل بك ، سأبحث عمن يتصلون بوزير الثقافة .
يعرف زميلنا أن هذا ممكن حدوثه ، خاصة في هذه الأيام التي تصير الأمور فيها بالواسطة والرشوة. وتحدث مع زوجته وابنته عن ذلك . وأخذت ابنته تحكي عن قدرات هذا الرجل المهم ، كيف أنقذ محكوم عليه بالمؤبد باتصالاته الواسعة ، وكيف ساعد قريب لزوجة ابنه على أن يكون وزيرا. وحصول والدها على جائزة مثل هذه لا تشكل مشكلة له بل هو عمل متواضع جدا بالنسبة لقدراته الخارقة .
وأحس زميلنا بأن خلفة البنات لها فوائد كثيرة ، فهو ليس في عائلته رجل مهم إلى هذه الدرجة ، ولولا ابنته ما عرف رجل بهذه الاتصالات الواسعة.
ومر أسبوع وزميلنا قلق، فقد يكون الرجل قد نساه في غمرة مشاغله الكثيرة ، كما أن موضوع الثقافة ؛ موضوع سخيف وممل بالنسبة لرجال الأعمال. وكاد أن يتحدث مع ابنته لكي تحدث خطيبها وتسأله عما فعل والده في موضوع أبوها. وتوصل أخيرا إلى أن يتحدث مع زوجته ، يستشيرها فيما يفعل .
لكن الرجل المهم أتصل به، وطلب مقابلته في مكتبه ، وذهب إليه.
مكاتب كثيرة ، ومديرون وسكرتيرات كثيرات ، وهو مالك هذا كله، جلس قلقا في مكتب مدير مكتبه الذي تحدث معه في جفاء ، ظنه جاء طالبا واسطة لكي يشّغل ابنه أو ابنته ، واضح أن الرجل لم يقل له عن صلة القرابة التي حدثت مؤخرا، ثم سمح له أخيرا بدخول المكتب الكبير ، وقف الرجل مرحبا، وطلب له فنجان من القهوة ، ثم مد له " كرتا " قائلا:
تأخرت عليك ، كنت مشغولا بأعباء كثيرة. تأخذ هذا الكرت وتذهب إلى الحاج عبده صاحب شركة السياحة المكتوب اسمها في هذا الكرت.
أراد أن يقول له: مالنا ومال السياحة ، إننا نريد واسطة لوزير الثقافة .
وأكمل الرجل الذي أحس بما يدور في رأس صاحبنا:
الحاج عبده يعمل في السياحة النهرية، يمتلك فنادق عائمة كثيرة ، والوزير يعمل في نفس المجال.
آه ...
لم يزد عن هذه ال( الآه ) فهو يعرف أن الوزير يمتلك فنادق عائمة . وقد تحدثت صحف المعارضة عن ذلك كثيرا .
وزير الثقافة محدث في موضوع السياحة ، لكن الحاج عبده يعمل في هذا المجال منذ زمن بعيد جدا، لذلك له أفضال كثيرة على سيادة الوزير.
وضع صاحبنا الكارت في سترته، وأكمل احتساء فنجان القهوة مسرعا ، وقام ، مد يده وصافح صهره، وأسرع إلى الشارع.
***
أندهش صاحبنا لأن الحاج عبده يذكر سيادة الوزير باسمه الأول فقط ، يتحدث عنه ببساطة ، مما يدل على أنه قريب جدا منه، وله دلال عليه.
عندما شرح له زميلنا حكايته، قهقه الحاج عبده ، وقال :
- (.......) لا يتأخر عليّ خاصة أن الموضوع بسيط جدا، وقيمة الجائزة لا تستحق كل هذا الجهد .أطمئن، وبلغ صهرك ، بأن يحط في بطنه بطيخة صيفي.
الموضوع بسيط جدا بالنسبة لصهره الذي يلعب في الملايين ، وبسيط للحاج عبده ، وبسيط لسيادة الوزير ، لكنه مهم جدا بالنسبة لزميلنا ، فالأمر لا يتعلق بالقيمة المالية للجائزة التي لا تعجب صهره ولا الحاج عبده ، المهم ما بعدها ، فالإعلام سيتعامل معه على أنه حاصل على جائزة التفوق، والعاملون في مجال الثقافة ستتغير معاملتهم له .
وظل صاحبنا يتحدث في ذلك الأمر مع أسرته، ومن وقت للآخر يتصل بصهره متعللا بأشياء بعيدة عن موضوع الجائزة، لعله يخبره بشيء حدثه فيه الحاج عبده ، إلى أن اتصلت به سكرتيرة الحاج عبده ، طالبة منه ، أن يأتي في الغد لمقابلة مديرها.
كان الحاج مبتسما كعادته، قال له:
-ولو أن مشاغلي كثيرة ؛ إلا أني اهتممت بموضوعك ، فأنتم معشر الكتاب لكم اهتمامات غريبة. المهم يا سيدي ، لقد تحدثت مع ( .......) ، وأخبرني بأن الأمر غاية في البساطة ، لكن هناك منافس لك له أسهم مرتفعة .
شعر صديقنا بالخوف، فهل هذا اعتذار لعدم تمكنه من إحضار الجائزة إليه ؟! لكن الرجل أكمل:
لا تخف، سنبحث لهذا المنافس عن موضوع يبعده عن الجائزة.
موضوع ، كيف؟
لا تهتم بهذه الأمور ، يعني فضيحة ..... لا شأن لك بهذا ، أنا سأتصرف.
وسار زميلنا في طريقة إلى البيت ، يفكر في ذلك المنافس، وأخذ يستعرض الأسماء، قد يكون فلان الفلاني ، أو العلاني ، هم يقيمون في القاهرة ، وعلى صلة بكبار موظفي الثقافة ، ويقابلونهم كل يوم تقريبا.
شعر بالقلق، فصهره هذا رجل أعمال ناجح ، لكن هناك مئات في مستواه المالي ، وعشرات أغني منه، وعلى صلة وثيقة بوزراء آخرين ، وربما برئيس الوزراء نفسه. أحس زميلنا بأن الموضوع صعب وليس كما بسطه صهره.
وأعلنت الجوائز ،وحصل عليها منافسه الذي لم يستطع الحاج عبده أن يبعده عن الجائزة، فقد يكون له صلات برجال أكثر أهمية من الحاج عبده ومن صهره المهم .
***
قلت لزميلنا : ما هذا الذي تحكيه؟
قال: أنت ما تعرفش حاجة .ده وزير الثقافة في كل لقاء ، يراني اقترب منه ؛ يعطيني ظهره، حتى لا أحرجه وأحدثه في هذا الموضوع.