منذ ان عزفتُ عن ممارسة السياقة نهائيا في شوارع عاصمتي بغداد المضطربة في نظامها كلّه ولا سيما نظامها المروري الأخرق واضطراري الى استخدام وسائط النقل العامة وأحياناً التاكسي بعد ان بعت سيارتي المبتلية بالصدمات من لدن أكوام مستخدمي الطريق المتهورين والخارجين عن إتباع أنظمة السير المعتادة وهم الكثرة الكاثرة قياسا الى الأقلية من المنظبطين ممن يعتبر السواقة ذوق وأخلاق وفنّ وفطنة من امثالي الذين اصبحوا أقليّة غريبة الاطوار حيث يسود الخرق وتزداد الفوضى والسير عكس اتجاه السير والسخرية من شرطة المرور وعدم احترام الاشارات الضوئية وهوان القانون والاستهانة به الى الحد الذي جعلني أتخلى عن مركبتي وتطليقها بالثلاث وهي التي خففت العبء عني يوما ما في تنقلاتي وحملتني وكانت عكّازا وسندا لي أينما اتجهت وحيثما أزفت .
ذات يومٍ وانا في طريقي للتسوّق واقتناء ما اريد جلست جنب رجل أخذ منه الكبر عتيّاً يبدو عليه الوقار والاتزان وأحسست انه يريد ان يبوح بما عنده لمّا رأى تلك الموبقات والمنغصات والخروقات الجمّة التي تسود الشارع وتنشر الفوضى فقال لي وهو يبتسم :
--أتعرف معنى " المرياع " الذي يتردد اسمه في ريفنا العراقي ؟
أجبته بابتسامة متبادلة :
--- أنا ابن المدينة ولم أتوغل في أعراف وعادات الريف الا قليلا ولم اسمع بهذا الاسم قبلا .
وكأنني فتحت له الضوء الاخضر ليبوح بما عنده من فضفضات وهو يرى هذا الخضم من الفوضى العائمة في مدينتنا وبين ظهرانينا فقال :
--- المرياع يا صديقي هو شيخ القطيع من الماشية الخليطة من الاغنام والماعز يقودها الى حيث يريد وأصله خروفٌ تمّ فصله عن أمّه النعجة منذ ان ولد؛ اذ يتمّ إرضاعه حليبا من ضرع انثى الحمار من أنبوبة معلقة في بردعة أتان ويبقى على هذه الشاكلة أمدا طويلا من الشهور حتى يكبر ويبدو كبشا ذا قرنين قويين يلفت الأنظار اليه ولا يجزّ صوفه ليظهر أكبر حجما واكثر مهابةً وأضخم طلعةً .
ومع مرور الزمن تصبح أتان الحمار بمنزلة أمّه المرضعة ويظل يتبع أمه المزعومة كلما تحركت من مكان لآخر .
اضافة الى كل هذا الذي ذكرناه من فصل الامّ عن وليدها وتغذيته لبن غيرها؛ يعمل الرعاة على إخصائه ومنع اقترابه من النعاج حتى يتم تسمينه بحيث يختلف وينسلخ عن بني جلدته بقية الخراف في الشكل والضخامة والهيبة ويتولّى قيادة باقي القطيع فيتحول من كونه ضمن جموع الرعاع ليكون قائدا سيّداً موجّها رائدا .
ولزيادة مهابة الخروف المخصيّ يتم وضع جرس يطوّق رقبته يسمى " القرقاع " ؛ يُحدث صوتا طنّانا رنّاناً مأخوذا من اسمه تسمى " القرقعة " كلما تحرك يمينا او يسارا او خلفا ام اماما لتنبيه بقية الماشية على اتباعه واللحاق به وفقا لمصدر القرقعة الصادرة من الجرس .
قلت للمحدّث مازحا بعد ان سكتَ قليلاً :
--- كأننا نحن هذا الشعب غدونا رعية مدجّنة مقادين كهذه الماشية تديرها وتسيّرها خراف لا ترى الاّ شكلها المهيب وهي مخصية من الابتكار وايجاد الحلول ، زمرة عاقرة لاتحبل ولا تنتج فكرا جديدا ولا تزيدنا الا أزمات تتبعها عثرات ومطبات دون ان تسوّي طرائق سليمة ميسّرة آمنة لأتباعها ولم نسمع منهم سوى قرقعات الأوامر والنواهي وصياح الحروب وطبول الانذار والتوجّس وصفارات الانذار والتوجّس من خوف او هلع وصناعة عدوٍ مبتكَـر وأوهام مؤامرات يصوغها الخيال الشرّير .
ويبدو اننا لسنا ظاهرة صوتية فحسب انما ظاهرة شكلية ايضا ترى المهابة والمنعة والزعامة في الشكل دون العقل فلا ترى الا السطح الماثل امامنا ولايهمنا فيما اذا كان الداخل اجوف والعقل اخرق والعزم فاتر واحمق كهذا الخروف المسمى مرياعا مادام ماثلا امامنا مهيب الجانب وضخم الجثة، منفوش الصوف فما حاجتي الى ابتكار العقل وايجاد الحلول للازمات وصنع البدائل الحكيمة النافعة فليتبوأ في الصدارة والزعامة والحلّ والعقد من كان من صغار الناس عقلا ودربةً ومراناً، او حتى حيوانا عريض المرأى طالما يمتلك جثة ضخمة ولا مانع ان يقودنا الى الدرك الاسفل والمهالك ولو تعثرت رِجله الى وادٍ سحيق ومهاوٍ عميقة سيما واننا نتقن وسيلة الاقتداء والاذعان والسير وراء ايٍّ كان حتى ولو أخذ بنا المذبح وأشبعنا سلخا وتقطيعا وأغرق مرابعنا بالدماء .
هؤلاء هم مرياعو البشر عندنا لا يرضعون حليب امهاتهم ولا يتغذون من ثديها المفعم بالحنو والرعاية ولمسات العطف التي تقدمه الانثى لوليدها ولست مغاليا لو جزمت وقلت ان كل كائن يُردّ الى حليبه ومرضعه كما كان أباؤنا وأجدادنا يقولون وأظنه هو الصواب بعينه .
جواد غلوم
jawadghalom@yahoo.com