الحياة تستحقّ ان تعاش لتمرح في بحبوحتها ولو أمداً قصيرا وتتلظى بلهيبها وقتا أطول وعلى مافيها من حوادث وصدمات يرتجّ فيها الانسان هلعا وخوفا؛ وكثيرا ماتقذفنا في محارقها وقليلا ماتدعونا في رحابة رغدها ورغم كل مكائدها ومخاطرها وحروبها ونكباتها ؛ لكن هناك يدٌ حانية منقذة تأتيك بغتةً لتعيد ترتيب معيشتك وتجعلها رائقة مستساغة، إنها يد الأمل التي تربتْ على كتفيك وتهدئ من روعك وتخفف من لواعجك وتمسح دموعك بأناملها الناعمة وتعيد الابتسامة والاشراقة إليك مهما حزنت وابتليت بواقع مريرٍ ومآزق مروعة ...
فمنذ ان عدتُ الى بلادي التي كانت تسمّى قبلا ببلاد مابين النهرين بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية والتي اطلقُ أنا عليها الان تسمية بلاد القهرين، رأيت العجب العجاب مما لايخطر على البال من غرائبية لا تخفى على ذي بصر وبصيرة وكتبت عنها الكثير ورأيت الموت مرارا أمام مرآي ونجوت من كماشتهِ ومرضت حتى دبّ اليأس انحاء جسمي بعدها تعافيت ثم انتكست اخرى ونهضت حتى بدوت في قمّة نشاطي وصحوي، أعيش المفارقات في عالم سوريالي غريب الاطوار وأعيد ترتيبه ليكون رائقا بملامح جمالية وسط هذا الخراب والأنقاض والدمار .
هنا لابد من اعادة تشكيل الاشياء التي امامك كي تحتملها وتتآلف معها وكم من فنّان جعل من مكوّنات النفايات مرأى جميلا وكم من شاعر وصف الجيف والأسن في قصائد بقيت خالدة وأبرزَ قيعانها وصفا سحريا أخاذا بحيث خلق لنا متعة لاتضاهى عند قراءتها والانغماس في حروفها وأجوائها .
في ذاكرتي قصةٌ لا أنساها ابداً أنقلها باختصار، هي قصة لرجلٍ أوكرانيّ اسمه " فرانز سيلاك " فيها من العبر والدروس ما يُغنيك عن كتاب الميدانيّ النيسابوري المسمّى " مجمع الامثال " بكل مافيه من عظات وعبر متوارثة، هذا الإنسان الاوكرانيّ الوديع هادئ الطباع يعمل مدرّساً للموسيقى وقد تجاوز السبعين من عمره ومازال على قيد حياتنا المعاصرة؛ البعض يسمونه محظوظا مع انه المبتلي بعدة نكبات طوال مسيرة حياته لكنه كان ينجو من الموت المحتّم بأعجوبة ويخرج من الكوارث المروّعة بأقلّ الخسارات الطفيفة .
ففي اول حادثة أصابته انه نجا من تحطّم قطار انحرفت إحدى قاطراته التي كان يستقلّها عام /1962 في " سراييفو " وغطست في نهر متجمّد ومات كل رفاق سفرهِ غرقا تحت الثلج لكنه ظلّ يجدف بنفسه ويسبح في الزمهرير معاندا الموت المحتّم حتى وصل الشاطئ قبل ان تتقطع أنفاسه الاخيرة وكانت حصيلة هذا الحدث كسراً في ساقه وخدوشا كبيرة وصغيرة شملت أرجاء جسمه .
بعد سنة من حادث النهر المتجمد سافر جوّاً الى " زغرب " وفجأة انفتحت باب الطائرة القديمة الصنع وسقط عشرون مسافرا كانوا معه في سفرتهِ وتحطمت اجسادهم على الارض جثثا هامدة وبقي وحده حيّا لأنه وقع على كومة قــشّ ولم يصب في حينها بأيّ أذى .
بعدها استقل حافلة عام 1966 ولكنها سقطت هي الأخرى في نهر محاذٍ للطريق ليجد نفسه مثقلا بالجراح والكدمات غير انه سبح وأنقذ نفسه ليصل الى جرف النهر ناجيا ليخرج برضوضٍ وكدمات ليست قاتلة .
ومع عدم تهوّره في قيادة سيارته لكنه عمل حادثتين في طريق خارجي نجا منهما أيضا، فالعناية الالهية تقف معه وتنجده كلما وقع في مأزق، ففي سنة / 1995 حاول بسيارته الخاصة تفادي قطار سريع في تقاطع سكة حديد ولم يفلح فصدمه القطار لكنه وجد نفسه معلّـقا على غصن شجرة قريبة بينما سيارته تشتعل نارا ... وآخر ما تعرض الرجل هو احتراق سيارته فجأة بسبب تسرب الوقود منها لكنه أنقذ نفسه وخرج قبل لحظة من انفجار خزان الوقود وكانت الحصيلة حروقا بسيطة والتهاب شَعر رأسه، ومن حسن الحظ انفتحت باب السيارة بركلةٍ عنيفة منه ليخرج بحروق بسيطة بينما صارت السيارة كتلة حديدية سوداء مما نسميه نحن العراقيين ( سكراباً )
يقول عن نفسه : أنا لست منحوسا، انا سعيد الحظّ وفي كلّ مأزق مررت به كنت ارى العناية الإلهية معي تشدّ من أزري وتشحن عزيمتي إصرارا على النجاة في أحلك الظروف .
وبعيدا عن الحوادث المهوّلة التي واجهته؛ ففي سنة / 2003 مرّ بأزمة مالية خانقة وأغلقت كل السبل الكفيلة بوجهه للتخفيف منها ولم يجد أمامه غير شراء بطاقة يانصيب بما تبقّى في جيبهِ من عملة نحاسية بخسة لأجل ان يكون خالي الوفاض تماما؛ وكانت المفاجأة حينما فتح له الغنى أبوابه على مصاريعها وفاز بالجائزة الاولى ليربح / 600 الف باون استرليني، هذه المبالغ التي كسبها باليانصيب كانت كفيلة لان تغطّي احتياجاته كلّها ويسدد ديونه المتراكمة ويشتري بيتا وسيارة وزورقا بخاريا ويدفع مهر زوجته الجديدة الخامسة وينسى معاناته الأولى وفشله في حياة زوجية هادئة مع زيجاته الأربع السابقات وخيبته معهنّ طوال مراحل حياته بدءاً من الفتوّة حتى هرمهِ بسبب الافلاس الذي يرافق حياته في الأعمّ الأغلب من أشواط حياتهِ .
تلك هي الحياة في إقبالها وإدبارها، في طرائقها الوعرة والسالكة، في نحسها وسُعدها؛ في إشراقتها وتجهّمها علينا ان نتكيّف معها؛ تصرعُنا في هواننا ونصرعها بعزائمنا وصبرنا وإرادتنا، فالإنسان أقدر المخلوقات على التكيّف في أحلك الأوقات وأقسى المعاناة وهذا هو سلاحه في منازلة ومواجهة الصعاب ... بعدها نستريح ونهنأ ونرمي عُدّتنا جانبا في ايام الرخاء والسعد والرفاهية على قصرها وشحتّها .
هكذا هي حياتنا الان نرغم ان نعيشها بمدّ تعاستنا الواسع وجزر سعادتنا الضيق جدا، نأنس نزرا يسيرا ونشقى ردحا وافرا وبين هذا وذاك عليك ان تمرّن نفسك على تحمّل المشاق مهما اتسعت وترضى بالقليل القليل مما يجيئك من الضوء من كوّة الامل قبل ان تغلق نهائيا .
جواد غلوم
jawadghalom@yahoo.com