الزيارة الأخيرة لمقهى اللوكسمبورغ

2013-07-30


//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/e45dc350-359d-4e87-9b17-4a3cf8da1815.jpeg

لم ألوِّحْ لها مرحِّبا

لمْ أسعَ لمطاردتِها سعْياً لِنَيلِها

هي من دعتْني للإرتماء في حضْنِها

منذ أن لاحت لي طلْعتُها الجليلة

وتألقتْ فتوتي في باحتها

كانت مُتَّكاي الجميل 

حين يعصفُ بي التعب

وينال منِّي الهزال

انتقيتها صفْوَتي ، نُخبتي المبتغاة 

يوم غربلتُ الحرير من يرقاتهِ

وألْبستُها حُلَّةً بَضَّةَ الملمس

وشربتُ نبيذَها الشهيَّ المُسْكِر

المعتّقَ بأقبيةِ اليسار المتأجج

المتلّونِ بالفوضى حينا

والتمرّدِ حينا آخر

وبين هذا وذاك

يلتمُّ الصراخُ الآتي من الشرق

يصمُّ مسامعي

يجرجرُني من أذيالي

بيديهِ القويتين

ليوقعَني في شِباكهِ الممزقة

لكنني أفلتُ من قبضتهِ

كسمكةٍ زلقتْ من صائدِها

أهربُ إلى غاباتٍ شائكةٍ

أدورُ مثل طائرٍ حائرٍ

باحثٍ عن عشٍّ آمِنٍ

أبحثُ عن فسحةٍ من العشب

أُرخي جسدي في نعومتهِ

وأتلذّذُ في بَلَلِهِ

كنتُ أدور برأسي  بين "الطاعون"

وبين "الغثيان" 

أثِبُ بين حُفَرٍ عميقة الغور

ناجياً بنفسي

وأعود إلى زاويتي في المقهى

طاولتي التي تعرفُني بطلَّتي الخجولة 

ومشْيتي الوئيدة

أعدّتْ لي كأسي الساخن

لأرشفَهُ مع إكسيرِ الفاقة

بقيتْ تسندُني سنواتٍ طوال

لكنها لم تقدّمْ لي

سوى القهوةِ اللاذعة المُرّة

وقدحٍ من الماء غير السائغ 

بيد أنه يروي ظمئي

مثلما أعلكُ حشاشة القهوة طرداً للجوع

مازلتُ أسمعُ وقْعَ خطى أحبّتي 

ذوي التقليعة اليساريّة

يتأبطون " الليبراسيون "

ويكيلون المجدَ للأهوجِ الشيوعي "ريجيس دوبريه"

مذ غادر الجادة السادسة عشر

ميمماً وجهَه صوبَ الكاريبي

مبحِراً في خِضَم الثورات النزِقة

متوسّداً أحراشَ الغابات مرةً

يغيبُ في طرقات المدن الموبوءة بالناحلين

ينامُ مع الوجَل بعينين نصف مغمضتين

يتحسسُ جسدَه خوف قرصاتِ البرد

ولدغات الرصاص الطائش

يتحاشى لسعات أعدائِه العقارب

الطالعة من خرائب واشنطن

يهرب من "السّخام" العالق في البيت الأبيض

خوفاً من أن يتَّسخَ بالدِّعَةِ والخمول 

ويتمرّغُ منتشيا تحت الأوراق الخضر

**********

صديقتي اللوكسمبورغ

أنا جليسُك العتيد

حين غادركِ سليلو "اللومانتيه "

وعاشقو "ستالينغراد"

التففتُ وحدي 

أغلقتُ محارتي بدهان الكلمات

وسددتُ مسمعي  بصمغٍ

نزعْتُه من شجرةٍ هرِمة

ظفرتُ بهِ في غابة بولونيا

ولأني غارقٌ في الفقر

رحتُ أتلصص كالفأر

وأنسلّ إلى خشبة جان كوكتو

متلصصاً خائفاً من أعين الرقباء

ممعناً النظرَ في كلّ دورٍ

يسلبُ لبِّي ويأخذ بكياني

إلى عوالمَ لم أكن ألِفْتُها

أُرخي جسَدي على كرسيٍّ وثير

دون أن أدفع فرنكاً واحدا

كم شتمنا العاهرين 

مريدي جان جينيه

وسخرنا من سفالتهم

ومجونهم النيئ

يعلكون اللِبان

المطعّمَ بالعبثيّة

وزَبَدِ "النهلستية" الطافحِ بين شفاههم

كعاهراتٍ في مبغى سافل

يتصيّدون حفنةً من الجُهّال

ممتهني اللصوصية 

سارقي النار من مارجيها

عاليِي الهِمَّة ، المُحَلِّقين في الأعالي

صديقتي اللوكسمبورغ

أنا زائرُك المحِبُّ، المشوقُ ، المُعنَّى

أما آنَ لي أن أهجعَ على وسادِك الناعم؟؟!

أما آن لقلبي أن يستريح؟؟

يوم أذِنَ اللهُ أن أرحلَ عنكِ

جئتكِ صباحاً وبيدي وردةٌ يانعة

نثرتُ أوراقَها على عتَبَتِك

ورششْتُ قبلاتي على جدرانِك

كما ترشُّ أمّي الماء

حين يفارقُها وليدُها

وطبعْتُ كفَّيَّ المخضبتينِ بالوفاء

على بابِك

وهمسْتُ في سِرِّي مودِّعاً

بيدَ أن الصباح شزرني بعينيهِ البيضاوين

كمن يوصيني أن أربطَ جأْشي

أتصنّعُ الاتزان

غير أني تعثّرْتُ بأحزاني

وانهلّتْ مدامعي بكاءً أسودَ

غامتْ رؤاي بغتةً

شحذتُ الظلمةَ بعودِ ثقاب

فعاد الصباح مجددا 

ضاحكاً بوجهي ، ناظراً إليّ بحنوٍّ

بعد أن دسَّ في جيبي...

حفنةً من ليلٍ عالقٍ بأذيالهِ

أهداني فتيلةَ زيتٍ بيدي

وعلبةَ كبريت أوقدُها في العتمة

هي زوّادتي في السّفر 

إلى مجاهلَ لاقرارَ لها

في بَرِّ الظلمات


جواد كاظم غلوم

jawadghalom@yahoo.com


 



 

جواد غلوم

خريج كلية الآداب/جامعة بغداد / قسم اللغة العربية لعام 1974-1975. عمل في التدريس بعد التخرج لغاية العام/1990 وفي الصحافة وهو طالب في الجامعة ونشرت في معظم الصحف والمجلات وقتذاك. سافر إلى خارج العراق بسبب الاضطهاد وظروف الحصار وعمل خلالها أستاذا في الأدب العربي/ ليبيا. عاد للعراق سنة/2004 وينشر في العديد من الصحف الورقية والالكترونية. ولديه اربع مجموعات شعرية مطبوعة وكتابان بعنوان / مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار، و قطاف من شجرتَي الادب والفن وهي مقالات في النقد الادبي .

jawadghalom@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved