متى تكفُّ العلمانية عن مغازلة العقيدة الدينية والاستنجاد بها ؟

2020-01-15

أحيانا أصاب بالعجب واسأل ما الذي يجعل رجال السياسة ورعاتها وكثير منهم العلمانيون والمدنيون يتعكزون على الفكرة الدينية لترويج وترسيخ أهدافهم وتحقيق مراميهم؛ وهل أن المفاهيم والمدارس العلمانية والأفكار التنويرية والعقلانية والمدنية المتحضرة عاجزة إلى حد ما عن إقناع الشعوب لضمّها إلى قناعات علمية وتجريبية بدلا من أن يتعكزوا على العقائد الدينية ؟؟

قبل أكثر من قرن اتكأت الحركة الصهيونية كفكرة دينية رجعية قائمة على التلمود ومنبعثة أصلا من مفاهيم التوراة رفع لواءَها عتاةُ العلمانية من عقول يهودية سعت ونجحت الى حد كبير في تشييد كيان إسرائيلي تبلور يوما بعد يوم حتى أضحى دولة ناهضة ثبتت أركانها وسط مجموعة دول عربية منها الكبيرة العريقة بإرثها ومكانتها ومنها الصغيرة المقسمة منذ مئة عام وفق معاهدة سايكس بيكو وبقي هذا الكيان يمتد ويبني ويستوطن المهاجرين وتزداد أعداد وافديه ومازال يزحف ليبلع أراضيَ أخرى فلسطينية من خلال استمرار بناء المستوطنات دون أن يردعه رادع حقيقي وفعّال سواء من قبل سلطاتنا العربية أو من قبل المنظمات الدولية او الدول الكبرى ولا حتى الرأي العام العالمي .

تتراءى لي بوضوح أن الصهيونية والأسلمة معاً تتكآن على الدين وتغازلانه ولا أرى فرقا بينهما سوى أن الأسلمة كانت أكثر بشاعة ومزقت شعوبها المسلمة نفيا وتهجيرا وحروبا متواصلة باسم العقيدة السمحاء حتى تحولت إلى عقيدة منفرة شوهاء ودمرّت بني جلدتها بينما الصهيونية – بدهائها وألاعيبها وتضامن الكثير من دول العالم معها -- لملمت شتات أهليها على حساب تفريق الطرف الآخر وهو الشعب الفلسطيني المعذب اللاجئ على الأرض باستثناء فئة عرب / 1948 من خلال انتزاع عروبتهم ودمجهم مع المجتمع الإسرائيلي  في عملية تذويب وصهر الهوية حتى نسي المواطن منهم محتده وأصوله وأهليه .

الأسلمة الطاغية عندنا اليوم هي الأخرى تعكزت على الدين للإنتشار تماما كما الصهيونية فهما صنيعة الدين لما له من جاذبية وسحر سرعان ما يدخل قلوب وعقول الشعوب واستغلال حالة الإيمان لتدخل الآيدولوجيا التي يسخرها العلمانيون اليهود لإنجاح مخططاتهم الصهيونية مثلما يسخّر الإسلاميون الآن لإشاعة الأسلمة وإدخالها في ممرات وأقبية السياسة بشعارات رنانة يصفق لها الجماهير بعفويتهم مادامت تدغدغ مشاعرهم العقائدية مثل " الإسلام هو الحلّ " باعتباره صالحا لكل زمان ومكان وضرورة طرح الحكم الإسلامي وترسيخ الإسلام كنظام سياسي يسمونه صالحا لكل زمان ومكان . ولا أدري كيف يكون صالحا في ألفيتنا الثالثة هذه بكل قفزاتها العولمية ومناحيها المدنية وأنظمتها الديمقراطية وتقنيات الميديا  الجديدة في نظمها المتعددة الحديثة وأعجب كيف تريد هذه التطورات المذهلة عقلاً أثنيا ضيق الأفق ليقودها ويعايشها ويماشيها في تطورها السريع بجريانه .

فكلنا نعتز بالإسلام وإرثه مثلما نعتزّ بالرسالات السماوية الأخرى ونعتز أيضا بحضاراتنا الأولى ماقبل الإسلام  لكننا نأنف من أن نستعمل آنية فخارية صنعها أجدادنا ونضمّها في مطابخ بيوتنا وننهل منها ما يدخل جوفنا رغم اعتزازنا بها وننشد صيانتها وحفظها بل ولا نفرّط فيها أبدا اذ لا تقدر بثمن مهما كان باهضا ونعمل المستحيل على صونها في المتحف ونفاخر بها الأمم والشعوب غير إننا قد نمرض ونشقى حينما تكون ضمن الأواني التي نستخدمها في بيوتنا  ونعجب كيف لأمةٍ تعيش عصر الألفية الثالثة وفي عصر العولمة والإنفجار في الإختراعات والمكتشفات أن تعيش عقليات القرن الثاني الهجري وما بعده وننصاع انصياعا أعمى لما تَـفَـقّـه به الأولون مع إدراكنا أن هؤلاء الأولين كانوا وحيدي عصرهم في توقّد الفكر والطروحات العقلية لكنهم اليوم مجرد عقول كان لها دورها في زمانها لكنها فقدت بريقها واختلّ مكانها الآن في مقعد النهضة الشاملة في بنائها الفوقي والتحتي؛ وقد آن الأوان أن نبتكر منهجا عقليا آخر لا يسرف في سرد ما قاله الأولون ويقع تحت إسار الإذلال والإنصياع والذيلية للعقول السالفة ويتحتم علينا الآن أن نبصر بعيون معاصرة إلى العالم وما ينبثق منه من ابتكارات أنتجها العقل المعاصر ونتماشى مع المحدث النافع والجديد المثمر  دون إحداث أية قطيعة أو انفصال مع الإرث العقلي السالف لكننا لا ننجرّ وراءه إتباعا أعمى حينما يصنف أهل الكتاب مثلا بانهم كافرون – على سبيل المثال – او هذه الفئة من الناس توضع في خانة الوثنية والشرك، والفئة الأخرى تصنف في خانة الموحّدين واعتبار الملأ بأن هذا الفكر وضعيّ والفكر الآخر سماوي، فالعالم بملياراته التي تزيد نسماته على السبعة مليء بالعقائد المختلفة والأصناف العقلية يصعب عدّها وحصرها ومن السخف أن ننشغل بتصنيفها على أنها كافرة ومنحرفة وسليمة ومؤمنة .

فليفهم المسلمون – ونحن منهم -- إنهم جزء صغير من الناس وليسوا كل الناس والله من جعلهم شعوبا وقبائل وأصناف شتى ليتعارفوا ويعمّروا ويؤثثوا المعمورة بناءً فوقيا وتحتيا لا أن يتنازعوا ويعادي بعضهم بعضا وهو ربّ العالمين الذين يكون المسلمون جزءا منهم؛ فهم ليس الكل في هذه الأرض التي مهّدها الله لنا ولغيرنا من أصناف البشر والأعراق والمنحى العقائدي . فلا طريق  لنا سوى طريق الإلتقاء مع الشعوب الأخرى ومدّ اليد لمصافحة السواعد القوية الناهضة والتعلّم منها كيف تنجز إبداعاتها بمساعدة العقل .

وتبقى العقيدة الإسلامية  زخما روحيا وحافزا لنا للإنتقال إلى مرفأ الحداثة واعتماد نظم سياسية جديدة راقية تحترم الإنسان ورغباته لتطوير بلده وفق أحدث النظم الديمقراطية فاتحين صدورنا وعقولنا لكل ماهو جديد ونافع لنا بعيدا عن إدخال العقائد عنوةً في أقبية السياسة وإدارة الحكم وتسيير الأمور من خلالها لأنها تقصر وتعجز عن أن تتكيف في مناخٍ لا يناسبها إطلاقا وإنما مكمنها في الصدور والقلوب وارتباطها حصرا بالخالق ومخلوقه وليس مكانها في قاعات البرلمان وهياكل الوزارات وأساليب التعليم المدنية لا الدينية .

فرجال السياسة ذوو المران والخبرة والدربة أجدر بالحكم القائم على الصواب والنجاح، أما رجال الدين الناصعون الشرفاء فهم أحفظ للعقيدة وصونها مما علق بها من دبق المطامع نحو الجاه والمال والحظوة التي لوثتها الأيدي الطامعة ( تجّار سياسة وتجّار دين ) ممن أوهموا الناس بفكرة الأسلمة عندنا وخدعوا عقول الملأ بهذا البريق الذي يعمي الأبصار لا أن يهديه بنورهِ سواء السبيل .

فيا أيها العلمانيون والمدنيون ودعاة التنظير السياسي المتقدم اتركوا للمساجد الإسلامية وللكنائس المسيحية وللكنيس اليهودي  رعاتها ولا تركّزوا أنظاركم على المعابد أيّا كان منبتها ومحتدها ومولدها؛ وأنتم ايها المحترفون والمشتغلون بالعقائد الدينية مهما كان لونها وسمتها تنحّوا جانبا عن أقبية السياسة ودروبها الوعرة والسالكة لئلا تفسد مثلكم العليا وقيمكم السامية النجيبة، وكم ستكون حياتنا زاهية لو اتّبعتم هذا المسلك المليء رخاءً وسعادةً وحرية عندما تتجوّلون به وتنتشي صدوركم أنفاساً عذبة وتمرحون بمشواره أمنا وسلاما ومحبة دائمة لكل عابر وقاصد .

 

 

جواد غلوم

خريج كلية الآداب/جامعة بغداد / قسم اللغة العربية لعام 1974-1975. عمل في التدريس بعد التخرج لغاية العام/1990 وفي الصحافة وهو طالب في الجامعة ونشرت في معظم الصحف والمجلات وقتذاك. سافر إلى خارج العراق بسبب الاضطهاد وظروف الحصار وعمل خلالها أستاذا في الأدب العربي/ ليبيا. عاد للعراق سنة/2004 وينشر في العديد من الصحف الورقية والالكترونية. ولديه اربع مجموعات شعرية مطبوعة وكتابان بعنوان / مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار، و قطاف من شجرتَي الادب والفن وهي مقالات في النقد الادبي .

jawadghalom@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved