يسقط كتاب - نفاضة الجراب في علالة الاغتراب، من بين يده من جراء ألم داء النِقْرِس. ينفتح الكتاب على صفحة.. و زُرت أجداثاً لأولياء صالحين، ختمتها بزيارة قبر الولي المتبرك به "عبد الله "بن محـمد الهزميري . حمل الكتاب من فوق الأرض وأغلق الصفحة . يخبرها أن صديقه "بديع" قال له، أنه سيغير اسم شارع "مَهدي" بركي، باسم "مُحسن" فخري، وذلك لأن اسم "مهدي" تقادم مثل حزبه . لا تحتمل الخبر . تريد أن يظل الشارع موسوما باسم "مهدي" و ينحت تمثال من الرخام ل "مُحْسن" بجواره كُرْسِي وكَسْكِيط . يقول لها :
-النحت ممنوع في المغرب .
يقرأ بصوت عذب بيتاً شعرياً لعله من شعر"المتنبي"
- كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تقول له :
-لا أريد الحديث عن الموت أريد الحديث عن القتل بالمِنْشار أو الشَنْق بالحبل .
يقول لها :
- هذه الأيام يتداول على شبكات التواصل الاجتماعي الشنق على طريقة الفيلم الأمريكي - الوردة السوداء . والذي تم إنتاجه عام 1950 . الضابط الفرنسي "لويس" مورين، قتل اثنين من المقاومين المغاربة شنقاً على الشجر .
انتبهت إليه مندهشة من ولعه بمشاهدة أفلام القتل . انفلتت من بين يدها رواية -حِداد الكلاب . عقفت ظهرها . حملتها من فوق الأرض . تصفحتها دون أن تمسحها من الغبار وهي تردد بصوت خافت ،خافت :
-الروائيون يستغلون الكلاب من خلال عناوين رواياتهم . لعلهم يتشاءمون من الحيوانات الضارة -كلب. ويتفاءلون بالنباتات النافعة- وردة .
تعدد عناوين الروايات التي سبق لها أن مسحتها منذ بداية هذا النهار -أوراق الورد، -المرأة والوردة،- وردة للوقت المغربي، -الوردة والبحر، -الورد الأسود،- وردة السلطان،-الشيطان والورد، -الوردة القاتلة، -ورد ورماد، -عصابة الوردة الدامية.. تمسح الغبار وقد بدت متعبة . أسندت ظهرها إلى الحائط، واستسلمت إلى ذكريات طفولتها . عندما كانت تدرس في المدرسة الابتدائية . كانت تخاف من حصة الجغرافيا، لأنها لا تحسن رسم الخريطة . تنسل من القسم . تهرب من المدرسة . تصل إلى دار جدتها من أمها، بحي- قاع وردة، تجدها بالمطبخ تبخر الورد لتحصل على بخار ماء العطر، تقبل يدها، تحضنها، تنكب على طنجرة من النحاس الأحمر، تجمع بسبابتها الموسومة ب -لَحٌاس لَقْدُور، ما علق بقاع الطنجرة، تستلذ طعم بقايا نتف اللحم المحروق والمطبوخ في الماء، تجد أن مذاقه يختلف عن مذاق شواء اللحم في دار جدتها من أبيها، وذلك لأنه لا يوجد الماء وسيطا بين اللحم والنار، تقشر جلد شحم اللحم المشوي على نيران، تتذوق بلهف لذة الشحم المحروق، تبحث عن السر الذي يَكْمُن بين الجدتين في التشاكل القائم بين المشوي على النار والمطبوخ في الماء، تتساءل :
- أيهما ألذ مذاقاً، الطبخ في الماء أو الشي على النار ؟
يتعذر عليها الجواب ؟ تجد بين النار والماء سراً غريبا، جربت في مونتريال اللحم مطبوخاً في الماء بالخرْشُوف . خرجت إلى سوق "أَدُونِيس"، اشترت الخرشوف، لعلها تحصل على طعام طيب النكهة بمذاق لذة طبخ جدتها، وجدت أن خَرشوف مونتريال لم يترك صِباغة على بنان أصابعها، تعجبت، خرشوف مونتريال لا مذاق له ؟.قِطعه جافة، لم يتسرب ماء المرق إليه، أضافت زيت الزيتون وشعيرات من الزعفران والزنجبيل والثوم والبصل المفروم، ترغب أن تحظى بلذة طاجين خرشوف يشبه لذة طاجين جدتها .
توقفت عن الغور في ذكريات طفولتها، نظرت من باب خزانة كتبها المُشرعة، رأته يختلس النظر إلى حبل الغسيل مبتسما، تريث قليلا، استمعت إليه وقد بدا صوته مرتفعا يًلْعَن الشيطان .
تمسح الغبار وهي تستمع إلى السيمفونية السابعة ل "بتهوفن" وتستنشق عبير الورد من حديقة بيتها، مصحوباً بأصوات عالية آتية من مسجد "خديجة"، أصوات أخرى غير واضحة آتية بالقرب من الغابة، تتساءل عن مصدر الأصوات وهي تمسح الغبار عن رواية -اللص والكلاب، تهم بكتابة روايتها على صوت اتْبُورِيدَة، كما أوصتها بذلك صديقتها المرحومة "مليكة" نجيب، اتْبُورِيدَة التي كانت تسمعها في ساحة للا "عوده" وتهز جسدها الفتي، الآن لا تهزها طلقة اتْبُورِيدَة، طلقتها أصبحت خافتة وكأنها وَمْضَة، تريد أن تستعيد هزة طفلة دون خمس سنوات، تهزها قوة اتبوريدة وتهرب، ولا تعرف للعالم حدوداً . مفتونة لا معرفة لها بمكر التاريخ، تتسلل تحت ضيق عتمة باب منصور العلج، تصل إلى وسع نور ساحة الهديم، العالم كان عندها ينتهي بهذه الساحة، تخترق صفوف المشاهدين، تتقدم أمام الحكواتي، مربعة تصغي إليه بانتباه حاد، ترى الحكواتي يرتفع مرة وينخفض مرة، هزت من مكانها، لا تسمع حكي الحكواتي، لأن النَقْع المنبعث من حركاته متسرعة، غلفت وجهها بكم قميصها، وأغمضت عينيها، اختفي الحكواتي، حكيهِ عصيٌّ على إدراكها الفتي، لا تسمع الصوت، ترى الحركات، تستأنس بالحركات، تعجبها، تدرك نسَقها الجميل كما تدرك حفيدتها "ألاء" حركات "جوجو سيوا"، وردة فوق شعرها، تخفي طفولتها عندما يقترب منها يتوكأ على كتفها الهش تكاد تسقط، تقول له :
-"ترامب" فرح بالبَقْشِيشْ من أبي "مِنْشار" .
لا يجيبها، مع أنه يعرف أن الأموال تتجلى فيها سياسة الكلاب، وتختفي فيها حكَامة الورود، تقول له :
- سبق أن قلت لي أن ديمقراطية الدول تقاس بالقانون الجنائي وبالمسطرة الجنائية وبالنظام القضائي لا بالدستور، أنا لا أفكر في الديمقراطية، أفكر في سياسة "الكَلب" أبي"مِنْشار"، الذي يغدق المال على الشيخ "ترامب" ولا يقرأ الشعر على غرار الرئيس "تريدو" المولع بقراءة الشعر على المنحدرات الجبلية، يقرأ شعراً محكماً يراعي فيه التفعيلات السليمة، يقرأ "تريدو" شعراً ل"جبران" خليل جبران .
الأرض لكم
والأرض تبتهج بملامسة أقدامكم العارية
والأرض لكم
وشعوركم مسترسلة تتوق إليها الريح
والأرض لكم ..
تمسح الغبار، ينزع من بين يدها رواية -المدينة والكلاب، دون أن تمسحها، تفكر أن تقدم للرئيس الذي يشبه اسمه النباتات النافعة "ياسمين" - جوستين - مشروع رواية متحرّكة، لتنشر لها بلدية مونتريال، قطعاً سردية مطبوعة على ملصقات، تظهرعلى واجهات المترو والحافلات العامة وسيارات الأجرة، وعلى فناجين القهوة تدين الحرب، يعيد الرواية إليها، تمسحها وقد بدت له طبعتها جديدة، يقرأ العنوان بصوت مشحون بالألم :
-المدينة والكلاب .
يقول لها :
-هذه أول رواية صدرت لهذا الروائي، صدورها شكل خطوة مهمة في تجاوز إشكالية الهنود في أمريكا اللاتينية، الرواية لم تنشر كاملة في اسبانيا إلّا بعد رحيل الجنرال "فرانكو"، حيث تم حذف العديد من صفحاتها، كما أضرمت النيران في الكثير من نسخها في البلد بيرو، لأن الرواية تقوم في الأساس على تيمة القهر السياسي .
تقول له :
- لعلها شبيهة برواية -الفردوس البعيد، أو رواية - صدى الزور البعيد، كلاهما تتحدثان عن سياسة القهر .
لا يلتفت إليها، يعرف أنها لا تريد أن تضرم في رواية صديقتها نيران، لأن الروائية أخفت الشاعر"عَلِي"، الذي حول أسد إلى فهد، احتراماً لوالدتها التي تنتسب إلى بلده،"علي"شاعر استولى على الجامعة والإعلام وطمع في جائزة -نُوبل، لم يكتب رواية، كتب مقالات عن الجنس والسياسة والهوية والدين، وظل شاعراً مرموقاً . تقول له :
- أخبرتني صديقتي أن شاعراً عربياً طمع في جائزة -نُوبل، خاب أمله، لأن أعضاء اللجنة كانوا على علم أنه انتحل قول "الأصمعي"، قال أحدهم- اكتفى بتغيير أسد إلى فهد .
يقول لها :
-سبق أن سمعت هذا الخبر في مقهى -الجمرة، وكان صديقي "بديع" يردد :
-كونوا مثل "فاطم"
في حذر
تقول للأسد اذهب فيذهب .
استعرضت أسماء صديقاتها - "فاطم"،" الزهراء"، "زهرة"، "أزهار"...يقلن للأسد اذهب، الأسد لا يذهب، يقرأ لها نصاً لل"أصمعي" :
-خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام على طريق الشام، فبينما نحن سائرون إذ خرج علينا أسد عظيم هائل المنظر، فقطع على الركب الطريق، فقلت لرجل بجانبي-أما في هذا الركب رجل يأخذ سيفاً ويرد عنا هذا الأسد ؟ فقال-أما رجلاً فلا أعرف ولكني أعرف امرأة ترده من غير سيف، فقلت وأين هي ؟ فقام وقمت معه إلى هودج قريب، فنادى - يا بنية انزلي وردي عنا هذا الأسد، فقالت - يا أبت أيطيب قلبك أن ينظر إلي الأسد وهو ذكر وأنا أنثى ؟ ولكن قل له ابنتي فاطم تقرئك السلام، وتقسم عليك بالذي لا تأخذه سنة ولا نوم، إلّا ما عدلت عن طريق القوم، قال "الأصمعي"- فو الله ما استتمت كلامها حتى رأيت الأسد ذاهباً أمامنا .
تمسح الغبار عن ديوان -تحولات العاشق، تخزي وتلعن اسمها، تشعر بالغباء، لأنها حفظت قصائد "علي" ولم تحفظ أقوال "الأصمعي"، لا تحب "فهداً" ولا "أسداً"، تحب "ياسمين"، لا تحب الحيوانات الضارة، تحب النباتات النافعة، لا تحب الماضي، تحب المستقبل، تمسح الغبار وهي تتذكر حكايات ولدها عندما كان يشتغل سائقاً للطاكسي في مونتريال . كان زبونه الطالياني يحكي له عن عشيقته، صبية ندية، عمرها ستة عشرة سنة، غرضها أن تصبح غنية وجميلة، وأن تفارق عالم الفقر والقبح، تعرف عليها هذا الرجل المسن الذي عمره ستون سنة، طالياني من المافيا يشبه "ترامب"، كان يغدق عليها المال بسخاء، فتصرفه على تسوية جمالها بإضافة ما ينسق تركيبة قطع جسدها ليثير شهوة الرجال، قببت كفلها وكبرت ثدييها ونفخت شفتيها ورسمت حاجبيها، وتحلت بحقيبة وبدلة وحذاءين موقعين.. مما أهّلها لدخول أشهر علب الرقص، وبعد أن انصرفت عن الطالياني، التقت بشاب وسيم، ينتسب إلى بلد عربي محتل، الشاب هرب من تكاليف الإسلام، بعد أن كان منذ طفولته مواظباً على الصلوات الخمس، تزوج عشيقة الطالياني المسن، وترك زوجه التي أنجبت له صبيتين، وذلك عندما كان عمره اقل من عشرين سنة، كان سُنياً ملتزماً بشعائر الدين، وفي العقد الثالث من عمره، تغير من المسجد إلى المرقص، تضع ديوان - تحولات العاشق، فوق الطاولة، تستمع إليه يردد قطعا شعرية :
-بين "ريتا" وعيني بندقية
يقول لها :
-هذه القصيدة يتعلق فيها الشاعر"محمود" الغزال، الفلسطيني المسلم ب "ريتا اليهودية، مثلما سبق أن تعلق الشاعر "يحيى" الغزال، الأندلسي المسلم ب "تود" المجوسية .
تخبره عن عزمها على كتابة رواية - قُبلة، لا تحول بينهما بُندقية، في زمن لم تكن فيه فلسطين محتلة، تخبره أن زوج أختها بو"بكر"، قبْلَ زواجه من أختها "نائلة"، هاجرت عشيقته "ريتا" من مدينة مكناس إلى تل أبيب وهي حامل من بو"بكر"، علمت بخبر حَمْلها أختها "جُو أُوحنا" فاستاء زوج أختها من هذا الحمل غير الشرعي، لأن له حضور وسط رجال الأعمال المغاربة اليهود، خصوصا بعد أن تم إدماجه في الحياة السياسية، منذ تأسيس أول حكومة مغربية سنة 1956 "ريتا" كانت تخرج مع أخيها الصغير "جاكوب" للقاء بو"بكر" .
استلهمت كتابة أحداث رواية - قُبلة، لا تحول بينها بُندقية، من خلال حديث أختها "نائلة"، التي أخبرتها فجر هذا النهار عبر هاتف المنزل الثابت، أن ابن زوجها من عشيقته اليهودية "ريتا"، ودّع أباه بو"بكر" بعد زيارة قصيرة، وأخبره أنه سيزور بنت خالته "علياء" بمدينة مراكش، وفيما بعد سيسافر إلى باريس للقاء خاله "جاكوب" الذي يعجبه حديثه عن مسقط رأسه مكناس وإدانة الصهاينة..
توقفت عن الحديث معه عندما سقطت من بين يديها مسرحية - الوردة الحمراء ، أعادت المسرحية إلى مكانها وفتحت ملفاً -وردة ل "فلاديمير"بوتين، قصة قصيرة، أعتادت أن تفتح هذا الملف عدة مرات، لتتدرب على إضاءة ظلال هذه القصة وفتق حروفها، من أجل السرقة، استعصى عليها أمر السرقة، ترددت كثيراً . أحجمت عن هذا الأمر، أقفلت الملف إلى أن تطمئن لنفعه .
يتبع .